فتح الإستفتاء على الدستور الجديد الأبواب على مصراعيها لتطارح أسئلة ما
بعد الإستفتاء على الفاعلين السياسيين بالمغرب، سواء الذين أيدوه ودعوا
إلى التصويت بنعم أو الذين عارضوه ودعوا لمقاطعة الإستفتاء عليه.
والمؤكد
أن الأرقام التي كشفت عنها نتائج الإقتراع الشعبي، لا تُعفي جميع الفاعلين
في الساحة المغربية من التفكير بمستقبل البلاد و.. مستقبلهم.
الأرقام
الرسمية تحدثت عن مشاركة أكثر من 73 بالمائة من المسجلين باللوائح
الانتخابية باستفتاء يوم الجمعة فاتح يوليو وأكدت أن 98.5 بالمائة منهم
صوتوا بنعم. هذه النتائج، التي أفرزتها صناديق الاقتراع، يصعب التشكيك
بصحتها، لأن الأغلبية العظمى من المجتمع السياسي والمدني المغربي تعاطت
بايجابية مع خطاب الملك محمد السادس يوم 9 مارس الماضي حول الاصلاح
الدستوري، وواصلت التعاطي بنفس الإيجابية مع خطاب 17 يونيو الذي قدم مشروع
الدستور.
لكن النتائج التي أعلنت لا تجعل مستقبل الفاعل السياسي
المغربي واضحة المعالم، بل تُحمّله عبء تدبير المرحلة القادمة بعد أن باتت
الكرة داخل ملعبه وتحمله المسؤولية الأساسية لحدوث أية انتكاسة عن الآفاق
التي فتحها الدستور الجديد. ومن المؤكد أن العاهل المغربي - بسرعة اقتراحه
للإصلاح الدستوري بُعيد أسبوعين من انطلاقة الإحتجاجات في بلاده للمطالبة
بهذا الإصلاح وما تبع ذلك - وضع النخبة السياسية المغربية برمتها أمام
مسؤولياتها.
مسؤولية النخب.. وممارساتها
في
خطاب 9 مارس أعطى العاهل المغربي إشارات إيجابية للنخبة السياسية من خلال
إشراكها في إعداد مشروع الدستور، ثم ما جاء به المشروع من تقليص اختصاصات
الملك وتوسيع اختصاصات رئيس الحكومة والبرلمان وفصل السلط ودسترة اللغة
الأمازيغية وحقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة.
وبالإمكان
القول أن مسؤولية النخب السياسية المغربية - والأحزاب المعترف بها تحديدا -
تتلخص في كيفية نقل النصوص التي جاء بها الدستور الجديد الى الواقع لتصبح
سلوكا وممارسة سياسية، ترتكز عليها وتنطلق منها نحو تحقيق المزيد من
الديمقراطية (التي باتت اللبنة الأساسية والضرورية في الإستقرار المجتمعي)
ومن التنمية المستدامة والتي تعني محاربة الفقر والأمية وتأمين فرص الشغل
وحماية وصيانة كرامة الإنسان وحقوقه.
وفي تصريحات لـ swissinfo.ch،
يقول المفكر الإقتصادي المغربي العربي اجعيدي: "إن الدولة والمقاولات
والأحزاب السياسية والمنظمات النقابية لن تتصرف فورا كفاعلين عقلانيين
بمجرد ما أن أصبحت تتحرك في بيئة مؤسساتية أكثر شفافية ومسؤولية. فالقيم
والتصرفات تبنيها مؤسسات تحدد بشكل واسع رد الفعل تجاه الإصلاحات كيفما
كانت طبيعتها".
ويضيف اجعايدي "بعبارة أخرى، فهذه التصرفات لا تصدر
تلقائيا عن تغيير الإطار المؤسساتي مهما كان عمقه. بل هي أساس تصرفات تُبنى
سياسيا واجتماعيا. فالتصرف العقلاني بحاجة للديمقراطية لكي يزدهر. وفي
غياب ذلك فإن النظام لا يتمكن من التغلب تدريجيا على الممارسات وأنماط
التنظيم التقليدية".
تحذير من ديمقراطية مُحاباة
وفي
الواقع، أدى تعاطي النخبة المغربية للشأن السياسي خلال العقد الماضي، إلى
تقليص تأثيرها بالمجتمع وضعف مشاركتها بصناعة القرار، حتى وإن شاركت
بالحكومات المتتالية. في الوقت نفسه، أظهر البطء الذي اتسم به تعاطيها مع
الإحتجاجات الشبابية التي انطلقت في فبراير الماضي للمطالبة بالإصلاحات ثم
محاولة اللحاق بها والإبتعاد عنها تاليا، أنها لا زالت تفتقد روح المبادرة
أو الإعتراض دون أن يشترط ذلك تجاوز التوافقات المجتمعية.
إضافة إلى
ذلك، كانت أمام النخبة الحزبية فرصة ثمينة لإثبات فاعليتها من خلال تبني
مطالب رفعتها منظمات حقوقية مغربية مستقلة تحظى بمصداقية إلى الدولة تحث
على القيام بسلسلة إجراءات تدفع نحو الإنفراج السياسي والإجتماعي تسبق
عملية الإستفتاء على الدستور، لكنها نأت بنفسها عنها. وهو نفس الموقف الذي
تبنته تُجاه ما شهدته الحملة التي سبقت الإستفتاء من تجاوزات خطيرة من خلال
الدفع بمؤيدي الدستور إلى الإحتكاك وأحيانا الإعتداء على معارضيه، ليس فقط
إعلاميا ومعنويا بل جسديا، إضافة إلى تنظيم حملات دعم للدستور كأعراس
وأفراح وهي حملات لم تكن ضرورية أو لازمة.
ويمكن القول أن مناهضة
النخبة الحزبية المغربية لهذه الممارسات مثلت إشارة على اتزانها ومسؤوليتها
أيضا، لأن التطور السياسي في البلاد وما جاء به الدستور الجديد من
إصلاحات، كان ضمانة أكيدة لحصوله على نسبة عالية من "نعم". وقد وجدت النخبة
الحزبية المغربية نفسها - من خلال تصريحاتها أو وسائل الإعلام القريبة
منها - بين منتقدة بخجل لهذه الإحتكاكات والإعتداءات أو غير معنيّة بها، مع
أنها كانت تستطيع - وهي تدافع عن الدستور الجديد وتنادي بالتصويت لصالحه -
أن تقف بجرأة ضد هذه السلوكيات التي شوّهت وجه البلاد الجديد وصورتها التي
تسعى لرؤية الآخر لها.
ويحذر المفكر العربي اجعايدي من مواجهة خطر
قيام ما أسماها بـ "ديمقراطية مُحاباة" يخضع من خلالها أصحاب القرار شكليا
للضغوط الخارجية والداخلية المساندة للديمقراطية، دون أن تتغير جوهريا
قواعد اللعب، أي الشرط الضروري للوصول إلى "ديمقراطية القناعة"، حسب
تعبيره.
استمرار حركة 20 فبراير. إيجابي!
الإمتحان
الأول والأساسي للنخبة الحزبية المغربية سيكون الانتخابات التشريعية
السابقة لأاوانها، فاذا كان الدستور الجديد ينص على بقاء المؤسسات
الدستورية (أي البرلمان والحكومة) إلى حين انتخاب مؤسسات بديلة وفق الدستور
الجديد، فإن انتخابات سابقة لأوانها ستجري قبل انتهاء ولاية البرلمان
الحالي في أكتوبر 2012. وفيما ذهبت العديد من الأوساط إلى الحديث عن تنظيم
انتخابات تشريعية مبكرة في شهر أكتوبر القادم، إلا أن أوساطا مطلعة استبعدت
ذلك وتوقعت إجراء الإنتخابات في الربيع القادم وتخصيص دورة أكتوبر
البرلمانية القادمة لمناقشة وإقرار القوانين الجديدة المنظمة للإنتخابات
المقبلة.
على الجانب الآخر، تدخل حركة 20 فبراير والأطراف الداعمة
لها خلال الشهور القادمة في امتحان حرج، فالحركة الشبابية التي تدعو الى
إصلاحات دستورية وسياسية واقتصادية واجتماعية ومحاربة الفساد، قد تجد في
استمرار احتجاجاتها وتظاهراتها، ما يُعفيها من المبادرة وتقديم مقاربة
موضوعية للتعاطي مع إفرازات الدستور الجديد، في ظل حملة شرسة تُشنّ ضدها،
وقد تزداد شراسة في الأيام القادمة.
وكما هو مُلاحظ، ملأت الدعوات
إلى وقف احتجاجات حركة 20 فبراير ومنع تظاهراتها، باعتبار أن مبرراتها قد
انتفت، الفضاء المغربي قبل المصادقة على الدستور الجديد، ويخشى كثيرون من
أن تتطور الحشود التي تخرج في الشوارع لمواجهتها بالشتائم والسب وأحيانا
بالعراك، إلى مواجهات دموية، إذا ما رفعت سقف مطالبها وشعاراتها من جديد.
وترتكز
هذه الحملة المُسلطة على الحركة الشبابية بالتأكيد على أنها سقطت تحت
هيمنة جماعة العدل والاحسان الاصولية شبه المحظورة وحزب النهج الديمقراطي
اليساري الراديكالي وتحالف اليسار الديمقراطي المعارض، في محاولة لـ
"تحزيب" و"تسييس" مطالبها وتظاهراتها. وفي الأيام الماضية، أبرزت وسائل
الإعلام المناهضة لها تقارير عن انشقاقات دبّت في صفوفها وصراعات بين
"الحزبيين" و"المستقلين" داخلها، إلا أن تظاهرات نظمتها يوم الأحد 3 يوليو،
أي بعد 48 ساعة من إجراء الإستفتاء، بينت أنها لا زالت حركة مجتمعية
فاعلة.
ويقول نجيب شوقي، احد ابرز ناشطي الحركة أن الخروج كان "من أجل إدانة
التزوير الذي شاب الإستفتاء وكذلك حملة الإستفتاء ورفض للدستور، وإصرار على
مطلب دستور ديمقراطي يلبي مطامح الشعب، حيث السلطة والرقابة تؤول للشعب،
بالإضافة إلى محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين المتورطين في نهب المال
العام، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ودمقرطة الإعلام العمومي
واستقلالية القضاء".
من أجل هذه المطالب، يعتقد ناشطو حركة 20
فبراير ومؤيدوها بضرورتها بل هناك من يعتقد، على غرار المفكر محمد الطوزي
عضو لجنة اعداد الدستور الذي لم يؤيد الدستور الجديد فحسب بل ساهم في
صياغته - بأن "استمرار الحركة يمكن أن يُشكل عامل ضغط إيجابي لتنزيل النصوص
الدستورية على أرض الواقع".