لكم دستوركم ولنا الثورةعلاء الاسوانيافترض
أنك تريد أن تبني بيتا لنفسك.. أنت تملك المال اللازم لكنك لا تستطيع أن
تبني البيت بنفسك لذلك سوف تستعين بمهندس توكله عنك في مهمة بناء البيت.
وحيث ان بناء البيت عملية متخصصة يجب أن تتم وفقا لقواعد هندسية سليمة كما
أنها تحتاج الى مواد بناء لها مواصفات محددة.. يجب عليك أيضا أن تتعاقد مع
مهندس استشاري للاشراف على مهندس التنفيذ. المهندس الاستشاري هو الذي سيحدد
مواصفات مواد البناء وهو الذي سيلزم مهندس التنفيذ باتباع الخطوات
الهندسية السليمة وفي النهاية سيقوم باستلام المبنى منه. هذه الطريقة
الصحيحة لبناء بيتك. السؤال الآن: ماذا لو أن مهندس التنفيذ قال لك انه لا
يحتاج الى مهندس استشاري وانه سيحدد بنفسه مواد البناء وسيقرر بنفسه
الخطوات الهندسية اللازمة. ماذا لو قال لك مهندس التنفيذ: ما الفرق بينى
وبين الاستشاري؟ أنا مهندس وهو مهندس. أنا سأنفذ البناء وأنا أيضا سأتولى
مراقبة نفسي بنفسي.
بالطبع لا بد من أن ترفض لأن هناك تضارباً في
المصالح حيث ان مصلحة مهندس التنفيذ ستجعله يستعمل أرخص المواد ويتغاضى عن
عيوب البناء حتى لا يتكلف مالا في اصلاحها بينما المهندس الاستشاري محايد
وهو الذي يحدد المواصفات ويتأكد من مطابقة البناء للمواصفات التي وضعها
بنفسه...
هذا المثال الصارخ على تضارب المصالح هو ما يحدث الآن في لجنة
كتابة الدستور. الدستور مثل المهندس الاستــشاري ومجلس الشـعب مثل مهندس
التنفيذ، لا يمكن لمهندس التنفيذ أن يتولى أعمال الاستشاري فيراقب نفسه
بنفسه ولا يمكن لمجلس الشعب أن يكتب الدستور الذي يحدد صلاحياته. الدستور
هو أبو القوانين الذى يحدد العلاقة بين سلطات الدولة ولا يجوز أبدا ان
تتدخل في كتابته احدى هذه السلطات. الدستور ينشئ صلاحيات مجلس الشعب فلا
يجوز لمجلس الشعب أن يحدد صلاحياته بنفسه. هذه القاعدة الدستورية الراسخة
قد أجمع عليها كبار أساتذة القانون الدستوري في مصر، بل ان المحكمة
الدستورية العليا في مصر في يوم 17 كانون الأول 1994 برئاسة المستشار عوض
المر أصدرت حكما قالت فيه بالنص:
«ان الوثيقة الدستورية تخلق مؤسسات
الدولة بما فيها مجلس الدولة والحكومة، وتقرر مسؤوليتها والقواعد التي
تحكمها وبالتالي لا يجوز لسلطة هي من خلق الدستور أن تخلق الدستور».
لا
يجوز اذاً لمجلس الشعب الذي هو من خلق الدستور أن يخلق الدستور. الحق واضح
جلي لا يحتاج الى نقاش لكن أعضاء البرلمان من الاخوان والسلفيين يصرون على
تشكيل لجنة كتابة الدستور بمعرفتهم وتحت سيطرتهم وحدهم.. لقد شكلوا نصف
لجنة الدستور من أعضاء مجلسي الشعب والشوري، أي من الاخوان والسلفيين، ثم
شكلوا النصف الآخر من شخصيات تنتمي الى الاسلام السياسي مثلهم وفي النهاية
أضافوا الى اللجنة بضع شخصيات مستقلة ليكونوا بمثابة «كومبارس» أو شهود زور
على جريمة خطف دستور الأمة المصرية لصالح الاخوان والسلفيين. هل تستطيع
هذه اللجنة المنحازة العرجاء أن تحدد صلاحيات البرلمان أو تضع قيودا عليه
بأي شكل بينما يمتلك أعضاء البرلمان فيها الأغلبية المطلقة؟ هل تستطيع هذه
اللجنة أن تلغى نسبة 50 في المائة عمال وفلاحين من مجلس الشعب بينما بين
أعضاء اللجنة عمال وفلاحون؟ هل تستطيع اللجنة أن تلغى مجلس الشوري بينما
أعضاؤها ينتمون الى مجلس الشوري؟ هل يمكن أن نتصور أن أعضاء مجلس الشعب
سيلغون امتيازاتهم وسيضعون على أنفسهم قيودا بأنفسهم بينما هم يكتبون
دستورا يسيطرون تماما على لجنته التأسيسية؟
يقول الاخوان والسلفيون،
انهم منتخبون من الشعب وبالتالي من حقهم أن ينوبوا عنه في كتابة الدستور..
هنا مغالطة كبرى لأن مهام المجلس النيابي مختلفة تماما عن اللجنة التأسيسية
للدستور. نحن ننتخب شخصا في اللجنة التأسيسية للدستور اما لأنه يمتلك
معرفة كبيرة بالقانون والدساتير واما لأنه ينتمي الى طائفة أو جماعة لابد
من التعبير عن ارادتها في الدستور لكن هذا الشخص ذاته الذي انتخبناه لكتابة
الدستور قد لا يصلح كي يكون نائبا عن الشعب.. وبالمقابل نحن ننتخب نائبا
لمجلس الشعب لقدرته على الاتصال بالجماهير وخبرته السياسية، لكن هذا النائب
نفسه قد لا يمتلك المقومات اللازمة لكتابة الدستور. من حق الأغلبية
السياسية في مجلس الشعب أن تشكل الحكومة ومن حقها أن تنفذ سياساتها التى
انتخبها الشعب من أجلها لكن ليس من حقها أبدا ان تنفرد بكتابة الدستور وفقا
لتوجهاتها.. الدستور يجب أن يشترك فيه المصريون جميعا عن طريق ممثلين لكل
التيارات والاقليات بل ان تمثيل الأقليات في الدستور أهم بكثير من تمثيل
الأغلبية.
لو أن في مصر مواطنا بوذيا أو هندوسيا واحدا لوجب أخذه في الاعتبار أثناء كتابة الدستور حتى نضمن حماية حقوقه كمواطن.
كان
الواجب أن يترفع الاخوان والسلفيون عن العبث بالدستور وأن يتركوا الأمة
المصرية تمثل نفسها بكل أطيافها ليكون دستورا يقيم الدولة الديموقراطية
الحديثة التي ضحى من أجلها مئات الشهداء بحياتهم أثناء الثورة.
هنا لا
بد من أن نتساءل: لماذا يتجاهل الاخوان والسلفيون الحق الواضح وينتهكون
بقلب جامد قواعد القانون الدستوري..؟! . هل أصبح الاخوان والسلفيون فجأة
جميعا من المغالطين الكذابين؟!. الاجابة بالقطع لا. فتيار الاسلام السياسي
بالرغم من خلافنا الفكري معه ، مثل كل التيارات السياسية، يضم شخصيات وطنية
وقامات رفيعة.. لماذا اذاً يغالطون ويتجاهلون الحق؟
الاجابة ببساطة لأن دوافعهم عقائدية دينية وليست سياسية أو فكرية. ان طموحهم للسلطة مدفوع بعقيدة دينية.
هنا
يجب أن نميز بين دين الاسلام والاسلام السياسي. ان كل مسلم هو اسلامي
بالضرورة.. ما دمت مسلما فأنت بالقطع تريد أن تطبق تعاليم الاسلام في كل
شؤون حياتك.. هكذا يقضي دين الاسلام.. أما الاسلام السياسي فهو مشروع سياسي
يستعمل الاسلام ليس بوصفه دينا وانما باعتباره برنامجا سياسيا يصل بصاحبه
الى السلطة ثم يسعى بعد ذلك الى تنصيب خليفة يحكم العالم الاسلامي كله.
الاسلام السياسي فكرة غريبة على التاريخ المصري الحديث لأن كل زعماء مصر
منذ محمد على في القرن التاسع عشر وحتى الآن كانوا مسلمين وكانوا يستمدون
من دينهم المبادئ الانسانية العظيمة، تعلموا من الاسلام الحق والعدل
والحرية لكنهم لم يعتبروا الدين مشروعا سياسيا قط. كان مصطفى النحاس زعيم
الوفد مسلما ملتزما حريصا على أداء تعاليم دينه بالكامل لكنه كان متشددا في
فصل الدين عن السياسة، لدرجة أنه رفض ذات مرة أن يقرأ برنامج أحد الأحزاب
لأن فيه لفظ الجلالة وقال لصاحبه:
ــ عندما تكتب كلمة الله في الدعاية الحزبية تتحول فورا الى دجال.
من
حق أتباع الاسلام السياسي أن يمارسوا حقوقهم السياسية ولكن من واجبنا أن
نشرح أن استعمال الدين لأغراض سياسية لابد أن يؤدي الى مجموعة من الممارسات
السيئة..
ان الدين اعتقاد حصري، بمعنى أن أصحاب أي دين يؤمنون بأن
دينهم الوحيد الصحيح فالمسلم يعتبر أن الدين عند الله الاسلام أما بقية
الاديان فهي اما كاذبة أو محرفة والمسيحي يعتبر المسيح الحقيقة الوحيدة
وبقية الديانات غير صحيحة واليهودى يعتبر المسيحيين والمسلمين جميعا في
ضلال لأن المسيح في نظر اليهود لم يظهر بعد ..
الدين ليس وجهة نظر قابلة
للنقاش وانما يشكل عقيدة يعتبرها أصحابها حقيقة مطلقة ويدافعون عنها
باستماتة ولا يقبلون أي تشكيك فيها.. ان الانسان مهما يكن مستوى تعليمه
مرتفعا ومهما ويتمتع برحابة الصدر والتسامح ما ان يشكك أحد في دينه، حتى
يثور بشدة ويتصرف بشراسة دفاعا عن عقيدته.. هذه طبيعة العقيدة الدينية وهي
مختلفة تماما عن الرأي السياسي الذى مهما كنت مقتنعا به فأنت في النهاية
تعلم أنه اجتهاد بشري قابل دائما للنقد والتصويب. ان ممارسة السياسة بمشاعر
الدين تؤدي غالبا الى التعصب والسعي الى الاستحواذ على السلطة بكل طريقة
من دون النظر الى مصالح الآخرين وحقوقهم.. من الصعب على أتباع الاسلام
السياسي أن يعترفوا بحقوق خصومهم السياسيين لأنهم يؤمنون بأن من يعارضهم في
الرأى انما يعارض الدين ذاته ولذلك فهو اما كافر أو فاسق أو عميل للغرب
والصهيونية أو ـ في أحسن الأحوال ـ منحل اباحي يسعى كي تشيع الفاحشة بين
الذين آمنوا... اذا اختلفت مع الاخوان والسلفيين فقد اختلفت مع الاسلام
ذاته. هكذا يعتقدون وبالتالي ليس بمقدورهم، غالبا، احترام المختلفين معهم
في الرأي أو الاستماع الى وجهة نظرهم لأنهم يعتبرونهم أعداء الله ورسوله..
أتباع الاسلام السياسي ـ كما صرح أحد مشايخهم مرة ـ يعتبرون الانتخابات
غزوة، حرب بين المسلمين وأعداء الاسلام.. فلا يعقل أبدا أن توقف القتال في
احدى الغزوات كي تستمع الى آراء أعداء الدين ولا يعقل أبدا أن تعترف
بحقوقهم اذا كنت تملك انتزاعها لصالحك.
ان الاخوان والسلفيين لا ينظرون
الى الدستور باعتباره عقدا اجتماعيا يجب أن يعبر عن ارادة الشعب كله لكنهم
يعتبرون كتابته فرصة ذهبية سوف يغتنمونها حتى يحيلوا مصر من دولة مدنية
اتسعت لجميع مواطنيها منذ القرن التاسع عشر الى دولة دينية يستأثر فيها
شيوخ الدين بالسلطة المطلقة بناء على فهمهم للدين، مهما يكن هذا الفهم
غريبا أو خاطئا. ان تشكيل لجنة الدستور بهذه الطريقة المنحازة المعيبة
سيؤدي الى كتابة دستور لن يمثل المصريين أبدا . ان كتابة الدستور وانتخابات
الرئاسة هما المشهدان الأخيران في مسرحية أعدها وقدمها الاخوان والعسكر
معا. صفقة سياسية اتفق بموجبها الاخوان المسلمون مع المجلس العسكري على أن
يشكلوا ذراعه السياسية ويوافقوا على كل سياساته ويضمنوا له امتيازات في
الدستور ثم يؤيدوا مرشح الرئاسة الذي يفضله. في المقابل يساعدهم المجلس
العسكري في الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان عن طريق انتخابات قد تكون غير
مزورة لكنها بالتأكيد لم تكن عادلة ولا ديموقراطية. وها نحن نرى مجلس
الشعب مقيد الارادة لا يجرؤ على مخالفة أوامر المجلس العسكري ونرى المجلس
العسكري يقف متفرجا بينما الاخوان والسلفيون يعتدون على حق الشعب المصري في
كتابة دستور يعبر عن المصريين جميعا ويدخل بمصر الى الدولة الحديثة..
اكتبوا الدستور كما تشاؤون لكنه سيظل دستوركم أنتم، لن تستطيعوا أن تفرضوه
على الشعب. ولسوف تستمر الثورة باذن الله، حتى تحرر مصر من الاستبداد وتعيد
السلطة الى الشعب بعيدا عن صفقة الاخوان والعسكر.
الديموقراطية هي الحل