د. سعد محمود الجادر
النشأة والتصدير
تذكر ( فرانسيس ستونر ساوندرس، من الذي دفع للزمار، ال " سي. آي. أي. "
والحرب الباردة الثقافية، ترجمة طلعت الشايب، القاهرة، 2002، ص 298 - 300
)، عن تصدير الفن الحديث الى العالم : " وبفضل التعاون مع " منظمة الحرية
الثقافية "، أصبح " متحف الفن الحديث " يستطيع الوصول الى أرقى المؤسسات
الفنية في أوربا. كان من بين أعضاء لجنة الفنون في المنظمة مدراء " قصر
الفنون الجميلة " في " بروكسل "، و " متحف الفن الحديث " في سويسرا، و "
معهد الفن المعاصر " في " لندن "، و " متحف القيصر فريدريك " في " برلين "،
و " المتحف القومي للفن الحديث " في " باريس "، و " متحف ججنهايم " ( في
نيويورك وفنيسيا ) ] ويقام الآن فرع من هذا المتحف في جزيرة السعديات في أبو ظبي
[، و " الجاليري القومي للفن الحديث " في " روما ". وبفضل ارتباطها بالقوة
الاقتصادية لمتحف الفن الحديث ( وبمؤسسة " فارفيلد " من خلف الستار طبعا )
استطاعت تلك اللجنة أن يكون لها مجال واسع للتأثير على الذائقة الفنية
لاوربا كلها." ... " وكان جورج كينان ‘George Kennan ‘
يدعو الى
ايديولوجية " الفن الحر " هذه ويحث عليها. وها هو يتحدث لجمهور من نشطاء "
متحف الفن الحديث " في عام 1955 فيقول لهم ان من واجبهم " تصحيح بعض
انطباعات العالم الخارجي عنا، وهي انطباعات بدأت تؤثر على وضعنا الدولي
بشكل مهم، ويقول: " هذه الانطباعات السلبية متعلقة بالثقافة أكثر منها
بالاحوال السياسية ". أما النقطة الثانية التي أثارها فجاءت مفاجئة ومذهلة
للجميع، اذ قال: " ان أصحاب الانظمة الشمولية قد أدركوا أنهم اذا ظهروا على
أنهم يتمتعون بثقة وحماسة الفنانين، فان بامكانهم أن يزعموا أنهم صنعوا
حضارة مليئة بالامل، وجديرة بالتصديق...وأنا أرى أنه من المؤسف أن يكونوا
قد توصلوا الى ذلك الادراك قبل الكثير منا ". ويتسائل كينان Kennan عن
طبيعة المهمة التي تنتظرهم: " علينا أن نُرِي العالم الخارجي أن لدينا حياة
ثقافية وأننا أيضا مهتمون بها، وأننا حريصون عليها بما يكفي ونشجعها هنا
في الداخل، وحريصون على اثرائها بالتعرف على الانشطة المماثلة لها في أي
مكان آخر. واذا كان بالامكان نقل هذه الانطباعات بقوة كافية وبنجاح الى
الاقطار الاخرى خارج حدودنا، فانني أؤكد أن ذلك أفضل من استخدام كافة وسائل
الدعاية السياسية الأخرى لما تحققه من أهداف ".
في هذا الاطار، لابد من
أن ننظر الى دعم " منظمة الحرية الثقافية " للرسم التجريدي والتجريبي
وتفضيله على الرسوم التمثيلية الواقعية. ومن تصريحات " توم برادن " و "
دونالد جيمسون " يتضح ان ال CIA كانت تشعر بأن لها دورا لابد من أن تقوم به
لتشجيع تقبل هذا الفن الجديد. كما تكشف سجلات " مؤسسة فارفيلد " عن أن
الوكالة كانت تعبر عن هذا الالتزام عن طريق الدولارات. "
وكان تصدير الثقافة والفن الحديث الامريكي من أقوى وسائل معركة أمريكا
من أجل الاستيلاء على عقول الناس عبر دعم وتشجيع الفن الحديث ودور النشر
والجمعيات والمؤتمرات والمهرجانات والاذاعات المسموعة والمرئية والمنح
الدراسية والجوائز وحفلات التكريم وعرض منتجات فنون الحداثة العبثية في
متاحف العالم الكبرى. إضافة الى استحداث متاحف خاصة بها، وغير ذلك من
المزايا كجزء حيوي من سيطرة الولايات المتحدة الامريكية على العالم باسم "
القرن الامريكي ". كما لاحظ العالم أجمع ذلك في السلوك الامريكي البربري في
أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي . وفي ذلك اقتباس آخر من كتاب ساوندرز، ص 175
: " ... وباختصار فان المطلوب كان هو مشروع وخطة شاملة للحرب النفسية
الامريكية، يكون هدفها الانتصار في الحرب العالمية الثالثة دون الاضطرار
لخوضها ". ومن وسائلها الدعاية البصرية في السياسة الثقافية التي روّجت لها
فنون الحداثة الغربية العبثية.
كما أن " ابتكار " أجهزة المخابرات
الغربية، وفي مقدمتها ال " سي آي أي " لمدارس الفن الحديث، ليس الا سرقة
للفكرة من أوربا بعد الحرب العالمية الثانية. وفي ذلك يقول مؤلفا كتاب (
الامبراطورية: Michael Hards and Antonio Negri, Empire, Harvard 2001,
تعريب
فاضل جنكر، الرياض 2002، ص 545 - 546 ) : " جاء التاريخ العسكري لعملية
الانقاذ المزدوجة لأوربا من قبل الجيوش الامريكية في الحربين العالميتين،
متناظرا مع عملية انقاذ موازية على الصعيدين السياسي والثقافي. فالهيمنة
الامريكية على أوربا، التي قامت على أسس: مالية واقتصادية وعسكرية، تم
جَعْلُها تبدو طبيعية عن طريق سلسلة من العمليات الثقافية والايديولوجية.
انظروا، مثلا، الى كيفية انتقال بؤرة الانتاج الفني وفكرة الفن الحديث، في
الاعوام التي أحاطت بنهاية الحرب العالمية الثانية، من باريس الى نيويورك.
يقوم سيرج غيلبو بسرد القصة الآسرة لكيفية نشوء التعبيرية التجريدية لدى
فناني نيويورك من أمثال جاكسون بولوك و روبرت فَطَرْوَلْ بوصفها الاستمرار
الطبيعي والوريث الشرعي لنزعة الحداثة الاوربية والباريسية تحديداً، حين
تعرض المشهد الفني الباريسي للغرق في حالة من الفوضى والضياع جراء الحرب،
والاحتلال النازي؛ وفي زحمة حملة ايديولوجية محمومة لترسيخ الدّور القيادي
للولايات المتحدة في عالم مابعد الحرب قامت نيويورك بسرقة فكرة الفن
الحديث:
وبالتالي، فقد تم وصف الفن الأمريكي بانه التتويج المنطقي
للنزوع المقيم وغير القابل للارتداد نحو التجريد. فما أن جرى رفع الثقافة
الامريكية الى مرتبة نموذج دولي، حتى تعيّن على مغزى ماكان أمريكيا،
تخصيصا، أن يتغيّر: فما كان أمريكيا بامتياز وبصورة نموذجية، بات الآن يمثل
" الثقافة الغربية " ككل. بهذه الطريقة، مالبث الفن الامريكي أن تحوّل من
فن اقليمي الى فن دولي - عالمي وصولا الى فن كوني شامل أخيرا.. على هذا
الصعيد، جرى وضع الثقافة الامريكية لما بعد الحرب على قدم المساواة مع
القوة الاقتصادية والعسكرية الامريكية: اعتبِرت مسؤولة عن بقاء الحريات
الديموقراطية ودوامها في العالم الحر " .
وربما لم تكن الوثائق المنشورة في المَصْدَرَيْن السابِقَيْن الا الظاهر
من قمة جبل الجليد من المعلومات التي لاتعرف عنها الشعوب الا القليل من
مؤامرات وأساليب المخابرات المركزية الامريكية في مجالات الثقافة والفنون
المليئة بالاسرار والغموض وعلامات الاستفهام. حيث تعمل النخب الاستعمارية
على فرض العولمة، بشتى الأساليب الباردة والحارة، والناعمة والوحشية،
لتنميط ثقافات العالم بقوة السلاح والاعلام الارهابي الاستعماري والوعود
الكاذبة والماكرة بالحرية والديموقراطية والرخاء واحترام حقوق الانسان
والعدل الاجتماعي.
وهكذا يتوسّع ويتعمّق تفشي الفوضى في عالم الفن، الذي أحْكَمَتْ صناعته
المخابرات المركزية الامريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية كجزء من
الحرب الباردة. حتى ان من النتائج التي توصّلَت لها الباحثة ساوندرس ان "
وكالة المخابرات المركزية الامريكية كانت بمثابة وزارة الثقافة لأمريكا "!
وذلك للتدخل الواسع " داخليا وعالميا " لل" سي. آي. أيه " في جميع مايخص
الثقافة، واستخدامها كمجال مهم وحيوي في الصراع الايديولوجي ابان الحرب
الباردة، ومن ذلك اصدار الجرائد والمجلات، والاغداق على المؤتمرات
والجمعيات والمنظمات " الثقافية الحرة "، مثل " نادي القلم الدولي " و "
منظمة الحرية الثقافية " و " الاتحاد الدولي للحرية الثقافية " في عشرات
البلدان في العالم. وجميعها منظمات خالية من مضمون عناوينها سواء "
الثقافية " أم " الحرية "، بل يعمل فيها، وبالدولار، عملاء لامريكا ضد
الاتحاد السوفيتي، ولافساد الذوق الجمالي والتشويش المعلوماتي ضد ثقافات
المستعمرات. فَرَشَتْ وأفْسَدَتْ مثقفين كبار من كتاب وفنانين وموسيقيين
واعلاميين، في الوقت الذي حَبَسَتْ الهواء عن المثقفين التقدميين، سواء في
أمريكا وأوربا، أم في العالم، وخاصة في المستعمرات. وخلقت ال " سي.آي.أي "
عشرات من مدارس الفن الحديث، وشجعت اقامة معارض ومتاحف لها، ومدّتها بالمال
والدعاية والمطبوعات، وروّجت لبيع منتجاتها الرثة، ومنها بملايين
الدولارات. هذا بالاضافة الى المفارقة الشزوفرونية بين الفن والسياسة، اذ
تذكر ( فرانسيس ساوندرز، ص 279 - 281 ) بان بعض ساسة أمريكا كانوا يأنفون
من " الفن الحديث " ويدركون تفاهته، وانه إهانة للثقافة الامريكية....
واذا كانت الحرب الباردة السياسية والعسكرية قد " انتهت " عام 1991،
وتحوّلت الى حروب ساخنة، فان " الحرب الباردة الثقافية " لم تتوقف ولا تزال
في أشد عنفوانها واندفاعها وأعلى درجات دعمها وامكانات تمويلها، بعد أن
تحولت من وسيلة من وسائل الحرب الباردة الى صراع خفي ومكشوف وعلى مستوى
العالم أجمع بين الفنانين الحقيقيين الانسانيين، وبين " فناني " الحداثة
العبثية. ولنا أن نتصوّر كيف سيستشري الأمر الآن بعد إحياء الولايات
المتحدة للحرب الباردة في صورتها المرعبة المعاصرة .