د. سعد محمود الجادر
انطباعات من بعض المتاحف و المعارض في معرض Postmodernism: Style and Subversion 1970 - 1990 بمتحف "
فكتوريا وألبرت " في لندن ( 24/09/2011 - 15/01/2012 ) الذي شمل إضاءة على
فن وتشكيل وعمارة وسينما وموسيقى وموضة مابعد الحداثة؛ فان الشكل والمظهر
الخارجي هو الاتجاه والموقف والهدف. وهو كل شيء يسعى الفنان لتقديمه. مما
يلقي الضوء على فنون الحداثة العبثية الخالية من الفائدة والروح والفن
والجمال. بل سريان موضة فوضى القبح والقنوط واليأس والضياع. الى جانب تخريب
التراكم الحضاري - الثقافي - المعماري - الفني - الجمالي - الإنساني .
وذلك عوضا عن الاضافة المفيدة والجميلة في الابداع والتجديد والابتكار
لأجيال الفنانين المعاصرين الذين تفتحت أمامهم مجالات التطور العلمي
والتقني المذهلة بما لم يكن بمتناول السابقين. لكنها التبعية وٍ قصور
الموهبة وتدني الحِرَفِيَّة والعدمية واللهفة واللهاث وراء المال والأرباح
بأي ثمن.
لقد حضرتُ عددا من معارض الفن الحديث ضمّت عَبَثَا وغفلة وزَبَدَا
كثيرا. منها المَعْرَضين الجَمَاعيَيْن الكبيرَيْن اللذين أقامهما ( تشارلس
ساتشي ) في لندن. ومنها معارض شخصية / أو جماعية كانت خالية أو شبه خالية
بعد انتهاء بذخ جولات الافتتاح .
كما حضرتُ عددا من المتاحف العالمية، التي تعرض الفن الجاد ومنتجات
الحداثة العبثية معا. فوجدتُ ان قاعات الفنون الملتزمة بالمدارس الواقعية
والتعبيرية تتقاطر عليها حشود الزوار، بينما القاعات التي تعرض فنون
الحداثة العبثية خالية، أو يمر عبرها أنفار جرّهم فضولهم للاطلاع عليها،
فأصبحوا محبطين وحائرين، بل نادمين، يستهجنون هذه الاعمال المناقِضَة
للفطرة السليمة والصحيّة التي تميل الى الجمال.
وعلى مثال متحف تيت مودرن Tate Modern في لندن، وهو أحد مستودعات فنون
الحداثة العبثية في العالم، فرغم انه يعرض أعمالا راقية لفنانين كبار مثل
بيكاسو، ودالي، وديغو ريفيرا، ومودلياني، وبونارد، ومونية، وماتيس، وغيرهم؛
فإن السيادة فيه ل " فناني " العبث والعدم مثل: ( بريجيت ريلي )، و(
لوسيان فابرو )، و ( سوزومو كوشيميزو )، و ( اي وي وي )، و ( ريتشارد تتل
)، و ( دو هو سو )، و ( لندا بنغليس )، و (روبرت موريس )... وعشرات غيرهم
ممن يعرض مواد مثل: قطعة خشب أو بلاستيك أو حديد أو قماش...، مكنسة، كرسي،
راديو، علبة كاسيت، مسجل، ساعة، دفتر وقلم، مفتاح، مسبحة، دُمية، بطارية،
شنطة، محفظة، علبة ماء.... وغير ذلك من عشرات المواد الجاهزة والأشياء
المستعملة الموجودة في البيوت والأسواق، مما لم يضع " فنان " الحداثة
العبثية فيه لحظة واحدة من جهد سوى رفعها من المسكن أو السوق وعرضها كتحفة
في هذا المتحف. وهذا بمقدور المتعلم والمثقف والعالِم والجاهل والأمي و
الطفل والمجنون و أي فرد في المجتمع. فلماذا يُقبل عرض هذه المواد كتحف في
متحف عالمي، ويُحجب هذا الحق في المساواة عن الآخرين، خاصة ونحن نعيش في ظل
الديموقراطية الغربية؟
وفي عرض ل ( مارك روثكو ) في قاعة تقرب مساحتها من 150 مترا مربعا، فقد
علّق " الفنان " على كل من جدرانها الأربعة لوحة واحدة كبيرة، وكلها ذات
أطياف حمراء تشغل كل مساحة اللوحات دون أن تعبِّر عن أي شيء. مثلها كمثل
لوحات ( جاكسون بولوك ) الكبيرة بتكوينات خطوطها المتشابكة، لكنها الملونة،
والتي بدورها خالية من أي معنى ومغزى.
وفي متحف " تيت مودرن " كذلك، وفي أحد معارض هذا النوع من العبث بالفن،
فإنه لم يكن في القاعات، التي تشغلها لوحات ومجسمات هندسية ضخمة من الزجاج
الملون، سوى بضعة أنفار من الزوار. وقد سألتُ الحارس : هل لو تَقَدَّمْتُ
بمثل هذه المعروضات لتمَّ قبولها؟ فأين الموهبة والمعرفة ومهارات التنفيذ؟
وأين الفن والجمال والعاطفة والخيال؟ وأين الفهم والفائدة والحس والتذوّق
والمتعة؟
قديما قال طيب الذكر ليوناردو دافنشي: " على الإنسان ان يفهم مايراه،
وليس الإعتقاد في مايراه ". فأين " فنان " الحداثة العبثية من هذا القول
السهل الممتنع؟
فالفن النافع والجميل ليس هدفا عند " فنان " الحداثة العبثية، بل المال
والشهرة والشره الاستهلاكي هو الهدف والمرمى. فن تؤطره المافيا والسياسة،
وليس التطور الثقافي وحاجة المجتمع. فن يدخل الى المتحف و " الغاليري "،
وليس الى قلوب الناس. فن ميِّت وخال من الفن والمتعة والفائدة والجمال. فن
بضائعي استهلاكي لايهدف الا الى الربح. فن مشروط: قبولٌ بمقابِلٍ. و"
فنانين " رفعتهم نفس النخب الاستعمارية السياسية الى مستبدي ثقافة مستكبرين
ينظرون الى المجتمع باستعلاء تافه حاملين أسماء كبيرة ولكنها مزوَّرة.
وليس بينهم فنان الشعب، الانسان صانع الفن المفيد والجميل الذي يعيش ثقافته
وتراثه في مجتمعه وينتج من أجل التعبير عن نفسه وإفادة وإمتاع الناس من
حوله.
لقد كان الفنان الموهوب في الماضي يتعلم ويكدح لصقل موهبته بالتكوين
الحِرَفِي والاقتدار التقني. أما " فنان " الحداثة العبثية، موهوبا كان أم
سمسارا متحايلا، لايهمّه الإرتقاء الأكاديمي ولا التمكُّن التقني. كما انه
لم يتدرج في عالم المعرفة ومجالات التكوين الفني، بل قفز في المجهول بدعم
وحماية. ولن أنس معرضا زرته في ثمانينات القرن الماضي في National Art
Gallery في لندن، إذ كانت لوحة أحد " فناني " العبث تشغل مساحة كبيرة من
أرضية القاعة مُنَفَّذَة بالرمل والأحجار ومؤطَّرة بحبال، وقد تجمع حولها
بعض الاطفال. وسمعتُ أحدهم يقول لوالدته: أنظري ياأمي فأنا أعمل مثل هذه
كذلك!
كما يلاحظ بان الأشكال التي تقدِّمها فنون الحداثة العبثية متخلفة حتى
عن جماليات الاعلانات في الشوارع والتلفزيونات، وعن الديكور والستائر في
المنازل والمؤسسات، وعن المقاعد في وسائل النقل. فالاعلان ذو فاعلية فنية -
تجارية - ثقافية. إذ تنتشر الاعلانات بصورها وألوانها وأضوائها لتشكل
علامة حيوية في المشهد البصري لساحات وشوارع المدن. ومن الاعلانات لوحات
ذات مواضيع نافذة وجذابة تثير إعجاب الناس على مختلف فئاتهم، ويستمر
وَقْعَها فترة طويلة، ولا تقتصر على " نخبة تفهم ". وعلى العكس من ذلك هناك
الاعلانات الفاشلة فنيا وجماليا والتي تشوِّه المنظر المحيط ولا تتجاوب مع
أذواق الناس ولاتثير اهتمامهم ولا تؤدي وظيفتها فيكون عمرها قصيرا
فتُستبدل بمواضيع وصور فنية أخرى تنال قبول الناس.
ولتبرير العبث " الإبداعي " تقدِّم هذه الفئة من " الفنانين " حججا
متنوعة: " الثورة على الماضي "، " التمرد على التقاليد "، " تكسير الفورمات
"، " تفكيك الواقع المرئي "، " التجريب "، " حرية التعبير "، " تحقيق
الذات "، " اكتشاف المجهول "، " البحث عن الجديد "،
" Anti - Form " , "
Beyond Painting "... وغير ذلك من أعذار أكبر من ذنوب. ذلك ان " فنان "
العبث تطفَّل على الفن الاصيل، وأضاع على مجتمعات العرب والمسلمين والعالم
عقودا من " فن " بلا فن نافع وجميل.