د. علي شفيق الصالح (*)
في باريس تشعر بحق انك في مدينة النور والجمال ومركز الثقافة
والفنون, ولنا نحن أبناء الشرق وبلاد الرافدين مشاعر خاصة تشدنا اليها
وتقربنا لها, لأننا نلمس فيها وبكل مكان أعماق حضارتنا وعظمتها. وفي باريس
تجد, وفي كل حي ومكان, بلاد الرافدين أو "الميزابوتامي" Misopotamy, وهي
تسمية أطلقها الاغريق على البلاد التي يحدها نهري دجلة والفرات, والتي تمثل
حالياً العراق. ولا غرابة من ذلك, فقد كانت هذه البلاد مركز اشعاع حضاري
للعالم في مختلف الوجوه, وازدهرت على هذه الأرض أقدم الحضارات وأعرقها وهي
الحضارات السومرية والبابلية والآشورية, التي امتد نفوذها الى البلاد
المجاورة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وفي باريس تجد آلاف القطع
الأثرية لحضارتنا, ويضم متحف اللوفـر Musée du Louvre لوحده أكثر من 5000
تحفة جلبتها فرق التنقيب الفرنسية من بلاد الرافدين منذ القرن الثامن عشر
ميلادي. اللوفر هو أشهر المتاحف الفنية في العالم، ويقع في قلب العاصمة
الفرنسية بين الضفة اليمنى لنهر السين وشارع ريفولي, على مقربة من ميدان
الكونكورد, أحد أشهر معالم باريس, والذي يبدأ منه شارع الشانزليزيه. يحتوي
اللوفر على عشرات الآلاف من التحف الأثرية, منها حوالي 35 ألف قطعة معروضة
في أروقة قاعاتها الكبيرة, وكان عبارة عن قلعة بناها فيليب أوغوست عام 1190
، لِتتحول لاحقاً إلى قصر شهد تاريخ عدة ملوك, وخلال الثورة الفرنسية
أعلنت الجمعية الوطنية أن اللوفر ينبغي أن يكون متحفاً قومياً. البداية مع
الآثار الاشورية، وتحظى آثار الرافدين باهتمام بالغ من قبل اللوفر, وهي
موجودة ضمن دائرة الآثار الشرقية, ومعروضة في قسم "ريشيليو" أهم الأقسام
الثلاثة للمتحف. وتعود أولى مظاهر المودة بين اللوفر وبلاد الرافدين الى
عام 1847 حيث تم تدشين "القاعة الاشورية" في المتحف, التي تضم أهم الكنوز
الآشورية, ومنها المجسمات الضخمة للثيران المجنحة ذات الرؤوس البشرية
الحارسة لمدخل غرفة العرش إلى جانب الأسود المروضة العملاقة. وفي باريس
وصلت من العراق أولى القطع الأثرية لبلاد الرافدين وذلك في نهاية النصف
الاول من القرن التاسع عشر, ويأتي في مقدمة خبراء الآثار الذين وصلوا الى
الموصل في شمال العراق للكشف عن خفايا آثار وخفايا مدينة نينوى الباحث
المعروف "باول أميل بووتا" Paul Botta , وكان قنصل فرنسا في الموصل. جسد
الآشوريون في نماذجهم كل ما يمثل القوة، كالأسد والثيران المجنحة ،
واللبوءة الجريحة ، حتى أن الملك يمثلونه دائما أثناء الحرب أو الصيد.
الآثار البابلية تزهو في اللوفروفي باريس جذبت الآثار البابلية ومنذ قديم
الزمان عشق الفرنسيين, وذلك بسحر الخيال عنها ولذكر بعضها في العهد القديم,
مما دفع رواد الآثار لاكتشاف أسرارها ونقلها إلى بلادهم. وتعتبر الجنائن
المعلقة احدى عجائب الدنيا السبعة, وبوابة عشتار, وشارع الموكب, وأسد بابل,
من أشهر هذه الآثار التي ذاع صداها لما نقل عن الاغريق حولها من روايات
وأساطير . في باريس توجد "مسلة حمورابي" أعظم كنوز اللوفر التي تعرف بشريعة
الملك البابلي حمورابي, والتي منها جاءت التسمية "حمورابي" على الصالة
الحديثة التي يزهو اللوفر بعرض هذه التحفة القيمة. الكل يعلم بأن مسلة
حمورابي, التي تعود إلى العام 1790قبل الميلاد, قد نالت الشهرة لقيمتها
التشريعية حيث تحتوي على أقدم مدونة قانونية في تاريخ الانسان, ولكن قليل
من يعرف بأن العلماء في فرنسا قد توصلوا حديثاً الى أن أحكاماً عديدة فيها
تثير الاعجاب ليس فقط في مقاييس عصرها قبل أربعة آلاف سنة, ولكن حتى في
مقاييس هذا العصر, وانها تقترب من تصورنا الحديث للعدالة. وان كثيراَ من
أحكامها تدل على مدى مكانة المرأة في بلاد الرافدين ونيلها حقوقاً تستحق
الفخر. في باريس الكل يزهو بان هذه التحفة, التي ساهمت في تقدم العدل ونضج
العقل البشري, ومهدت لنزول الشرائع السماوية, قد اكتشفت على يد بعثة فرنسية
برئاسة مهندس المناجم والجيولوجيا وعالم الأثار المعروف "جاك دي مورغان"
Jacques De Morgan وذلك في عام 1902م.في باريس تجد آلاف الأختام الأسطوانية
والنقوش بالكتابة المسمارية التي ظهرت في مرحلة أولى بجنوب وادي الرافدين
لدي السومريين للتعبير بها عن لغتهم, ثم اعتمدها الأكاديون بعدهم وكذلك
البابليون والآشوريون . ابتكر أبناء الرافدين أول كتابة في العالم, وهي
الكتابة المسمارية (حوالي سنة3200 ق م), وقد سبقت الكتابة الهيــروغرافية
بحوالي 100 سنة, والأبجدية الفينيقية بحوالي 1500 سنة. ولا نستغرب إذا ما
علمنا بأن للفرنسيين دور مهم في فك رموز الكتابة المسمارية, فأن الدراسات
الحديثة قد كشفت لنا إسهام الباحثين الفرنسيين "فلاندين" و"كوست" في
التمهيد لهذا الانجاز الذي تم في النهاية على يد العالم الإنجليزي "هنري
رولنسن" Rawlinson.أنشأ سكان الرافدين المكتبات في المعابد والقصور لحماية
تراثهم المكتوب وصيانته، فقد ضمت مثلاً مكتبة آشور بانيبال و حدها ما يقارب
من 120 ألف رقيم تشمل كافة صنوف التراث الفكري والأدبي والتاريخي, ومنها
ملحمة جلجامش (ملك اوروك) التي تُعتبَر أقدم قصة كتبها الإنسان . ثمار
التنقيب في المدن السومرية وفي باريس أثار جنوب الرافدين في العراق ومنذ
زمن بعيد اهتمام الباحثين, وتشهد على ذلك المجموعات الكبيرة من التحف
القيمة التي عثرت عليها حملات التنقيب الفرنسية في لجش وكيش (التي تسمى
أيضا بتل الأحيمر) وبقية المدن السومرية, ومن أهم ثمار هذه الحملات مجسم
للأمير جوديا حاكم لجش من صخر الديوريت, ولوحة النصر لنارام سن حاكم أكد
وحفيد سرجون مؤسس الامبراطورية الأكدية. فقد نالت المدن الرئيسية للسومريين
في جنوب العراق ومنذ بداية 1877م القدر اللائق من اهتمام الباحثين
الفرنسيين, ومنها مدينة " لجش" بقيادة أرنست دي سارزيك Ernest de Sarzec
الذي كان في نفس الوقت نائب القنصل الفرنسي في ولاية البصرة, وما تزال
اكتشافاته إلى اليوم المصدر الرئيس لمعلوماتنا عن حضارة سومر القديمة . كما
شمل الاهتمام مدن أخرى في الجنوب منها مدينة " كيش " بقيادة هنري دي
جينويلاك Henri de Genouillac بين عامي 1911 و 1912. ومن أهم التحف التي
عثر عليها الفرنسيون مجسم للأمير جوديا حاكم لجش من صخر الديوريت, ولوحة
النصر لنارام سن حاكم أكد وحفيد سرجون مؤسس الامبراطورية الأكدية.الحي
اللاتيني و دور جامعة السوربونوفي باريس في الحي اللاتيني, الذي يسمى كذلك
الحي الخامس ، ويعتبر قلب باريس التاريخي والأدبي، والذي يقع في الضفة
الشرقية من نهر السين, يمكنك أن تتعرف عن قرب على انجازات بلاد الرافدين من
خلال زيارة الجامعات والمكتبات العظمى الموجودة فيه والتي تهتم بالتاريخ
والآداب وبالحضارات القديمة, وبالأخص جامعة السوربون الشهيرة, الواقعة على
مقربة من حدائق اللكسمبرغ وعلى خطوات من البانتيون, أو ما يسمى مقبرة
العظماء, وفي حي سان جرمان أقدم أحياء باريس, وغير بعيد عن مقهى فلور
الشهيرة وأكاديمية البوزآرت أو الفنون الجميلة, توجد المدرسة التطبيقية
للدراسات العليا , التي اشتهرت بدورها كحلقة وصل بين الحضارات, والتي يعمل
فيها أكبر خبراء حضارة الرافدين, وكان منهم عالم التاريخ الشهير جون بوتيرو
Jean Bottéro, الذي توفي عام 2007 عن عمر ناهز93 عاماً بعد أن ترك لنا
مجموعة قيمة من المؤلفات والدراسات التطبيقية عن انجازات الحضارات السومرية
والبابلية, منها: حمورابي الكتابة والحكمة, بابل فجر الحضارات, أقدم أديان
العالم, أقدم مطابخ العالم. كما أنه ترجم الى اللغة الفرنسية كتاب كرومر
حول ملحمة جلجامش. وقد اعتدت على التردد على هذه المؤسسة لمساهمتها الكبيرة
في دراسة كل ما يتم العثور عليه من آثار ووثائق وتحليلها بعمق, وللدور
المشهود لأساتذتها في تعريف العالم بتاريخ بلادنا والكشف عن أمجادها,
المكتبة الوطنية ومعهد العالم العربي وفي باريس تجد أقدم المكتبات الوطنية
وأعرقها في التاريخ, واضخم المكتبات في أوروبا, وهي المكتبة الوطنية
الفرنسية (أو مكتبة فرانسوا ميتران), تعرض للباحثين وعموم الزوار كل ما
يريدون معرفته عن حضارة وانجازات بلاد الرافدين, من خلال مئات الكتب
والوثائق والدراسات (حوالي 20 مليون مجلد مطبوع، و500 ألف مجلة، و165 ألف
مخطوط، و 600 ألف خريطة), عدا ما تنظمه المكتبة من عشرات المعارض والندوات
والمطبوعات الدولية لخدمة الفئات العلمية . وكل يوم تحصل ومن خلال الخدمات
التي تقدمها المكتبة على معلومات جديدة عن حضارتنا العريقة وتكتشف خفايا
تنير العالم ونفخر بها . وتنتشر في باريس مظاهر الولع الفرنسي بحضارة
الرافدين في كل مكان, وهو يمتد الى ما تنظمه المؤسسات المعنية من عشرات
المعارض والندوات. ولا يمكن أن ننسى دور منظمة اليونسكو ومعهد العالم
العربي في باريس بهذا الصدد. وفي بناية معهد العالم العربي تجد وثائق
ومعلومات قيمة, ومكتبات فيها مراجع مهمة, ويقيم المعهد معارض وندوات لها
علاقة بالعالم العربي، وقد أقيم هذا المعهد بتعاون بين الدول العربية
وفرنسا، وتتكون هيئة المعهد الإدارية من مندوبين عن كافة الدول العربية،
العاملات والعاملين فيه هم من العرب الفرنسيين. بقي القول بأن القليل يعلم
أن اللوفر وبقية المتاحف الأوربية الكبرى صارت تتجه نحو المشاركة في
التنقيب مع دول المنشأ, والمساهمة في صيانة المواقع الأثرية, ومحاصرة
الآثار المسروقة لإعادتها لأوطانها. والمهم علينا الآن دعم مثل هذه الجهود,
بالاستفادة من الخبرات في اعداد كوادر آثار لها مهارة فنية عالية في مجال
التنقيب والصيانة, وفتح معاهد خاصة لهذا الغرض, والقيام بحملات تنقيب
مشتركة لكشف المزيد من عظمة حضارتنا وخفاياها, فان العراق كما يقال غني
بثلاثة أشياء قيمة: النفط والمياه والآثار, وان ما تم اكتشافه لحد الآن من
آثار في بلاد الرافدين لا يتجاوز 5 بالمائة من المجموع.
(*) استاذ القانون العام والمقارن/ باريس
الصور حسب التسلسل، ابتداءً من اليمين
1- متحف اللوفر مع الهرم الزجاجي
2- المكتبة الوطنية في باريس
3- مسلة حمورابي اقدم مدونة قانونية تتصدر صالة متحف اللوفر
4- جامعة السوربون
5- معهد العالم العربي في باريس
6- الثور المجنح