بعد الحراك الشعبي الذي تشهده بلدان عربية عدة، أصبح موضوع المراجعات
الفكرية لدى تيار ما يسمى بـ"السلفية الجهادية" في المغرب يتأرجح بين
ثنائية: التكتيك المؤدي لمغادرة السجون، والنضج الفكري المحتم من أجل تصحيح
الأخطاء وتداركها قبل فوات الأوان.
في حين ظل التيار الذي ثبت في
حقه ارتكاب أعمال قتل وعنف مادي فيما يرتبط بـ"خلية يوسف فكري" ومنفذي
تفجيرات 16 مايو 2003، الناجين من الموت، صامدا على قناعاته ومواقفه
الخاصة، غير عابئ بصيحة المراجعات، ممركزا قناعاته حول النص الشرعي لتبرير
تصرفاته نحو "الكافر"، ولو كان حارس السجن.
تيار المراجعات، يخوض
اليوم نقاشا حادا داخل السجون المغربية بدءا بخلخلة "أزمة النص" لتدشين
حوار مع المخالف وإنقاذ الشباب من السقوط في مهاوي الغلو والتطرف.
وبين
هؤلاء وأولئك، نشأ جيل ثالث في السجون لا يعترف - بحسب مصادر سلفية أفرج
عنها - إلا بمن يرابط في الثغور، ولا يفرق في ممارسة التكفير والتفجير بين
أمه وأخيه، حيث أصبح شيخه هو كل من حارب أميركا "الطاغوت".
فمن
مراجعة أبو حفص عبد الوهاب رفيقي في وثيقة "أنصفونا"، إلى مراجعة حسن
الخطاب "المصالحة الوطنية هي طريق المواطنة" وعلي العلام "لا تجهضوا
المراجعات الفكرية" إلى مقالات محمد الفيزازي، المفرج عنه أخيرا ورأيه في
الدستور وإمارة المؤمنين في المغرب واختياره العمل من داخل المؤسسات، إلى
بيانات وحوارات حسن الكتاني الداعية للسلم الاجتماعي والاعتراف بالملكية،
يبقى الخوض في عمق المراجعات الفكرية المغربية، بخلاف المصرية والسعودية
والليبية والجزائرية، مشيا فوق أشواك يختلط فيها تفسير النص الواحد ليقرأ
قراءات متعددة: واحدة تهديه للوسطية والتعايش، وأخرى تبرر له التكفير
والهجرة، وثالثة تحتم عليه التفجير، فيما يصطلح عليه أصحابه بـ"توقيت الموت
في سبيل الله".
المراجعات الفكرية وأزمة النص
يخوض
السلفيون الجهاديون والتكفيريون في السجون المغربية حاليا حوارات مطولة
حول تفسير النص، خاصة حول تغيير المنكر، والتوحيد وقضايا العقيدة الكلامية.
وحسب
سلفيين عايشوا جزءا من هذا الحوار الكلامي، يكاد يتمحور الجدال حول ثلاثة
نصوص شرعية تشكل مفصل الخلاف بين الجهاديين من جهة والتكفيريين من جهة،
وعلماء المجتمع (رسميين أو غير رسميين) من جهة ثالثة.
أول هذه
النصوص الشرعية هو تفسير "النهي عن المنكر" الوارد في الحديث النبوي: "من
رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه،
وذلك أضعف الإيمان"، ففي وقت يذهب فيه جمهور العلماء إلى تفسير يرى التغيير
باليد للسلطان واللسان للعلماء والقلب للعامة، يرى هؤلاء السلفيون أن
الحديث موجه لشخص واحد أن يغير بيده ولسانه وبقلبه، لوقوفهم عند عبارة "فمن
لم يستطع"، التي تفيد عدم القدرة والانتقال للمرتبة الأخرى من تغيير
المنكر.
ثاني هذه النصوص الشرعية: هي قصة الغلام والراهب والساحر،
والتي ترسخ في نفوس هؤلاء أن الغلام ضحى بنفسه ليعرف المجتمع عقيدة التوحيد
الصافية، بعد اعتراف الطاغية بأنه ليس إلها بتلفظه باسم رب الغلام لينفذ
السهم فيه ويموت.
وثالث هذه النصوص المحورية: هو تفسير الآية
الكريمة: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"، حيث يفسرها
هؤلاء بما يسمونه "اختيار توقيت موتك" ما دمت جعلت كل أعمالك وأحوالك لله،
وهذا الاختيار هو الدافع لتفجير النفس حتى يموت المتفجر في سبيل الله.
ولتركيز
مثل هذه المعاني في نفوس الأتباع المتلقين، يستعين من له "كاريزما"
المشيخة أو سابق جهاد في أفغانستان أو العراق أو البوسنة أو الشيشان بقصة
محتواها أن رجلا كان له "ببغاء" جميل الصوت، فمرض مرضا شديدا وأراد صاحبه
أن يعالجه، فأرشده الببغاء إلى أن علاجه يتطلب السفر إلى منطقة فيها
ببغاوات كثر، ليجد لديهم العلاج، ولما أخبر الرجل بحال صاحبهم ومرضه ماتوا
جميعا، فعاد الرجل إلى الببغاء المريض خاوي الوفاض، ولما أخبره بحال إخوانه
تظاهر الببغاء أيضا بموته، مما دفع الرجل لفتح القفص ليخرجه، ولما وضعه
خارجا استعاد الببغاء حياته وطار، وترك وصية للرجل أن أصحابه علموه درسا أن
"عليه أن يموت لكي يحيا".
هذه نتف مما يسمى بأزمة النص وتأويله
لتبرير مسائل الجهاد والتفجير والتكفير، لكن كيف تنفلت المراجعات الفكرية
من التشتت في متاهات النص وتأويله لتصبح قناعات ترسخ الأمن الروحي لأبناء
هذا التيار أنفسهم؟
المراجعات تأكيد لقناعات
من
خلال مطالعات الوثائق المرتبطة بما يسمى بـ"المراجعات" المغربية، والتي
ظهر منها إلى الآن ثلاثة مبادرات، فيما تفيد أخبار أن هناك مبادرات أخرى
تنتظر إخراجها للإعلام.
فحسب جلال المؤدن، أحد المعتقلين المفرج
عنهم أخيرا والحاصل على الماجستير في الدراسات الإسلامية، أن المراجعات هي:
"قناعات راسخة جاءت نتاج إعادة قراءة المخزون الفكري السلفي قراءة نقدية
والانفتاح على المدارس الإسلامية الأخرى، خاصة المدرسة المقاصدية، التي
ميزت بين النص والواقع والمآل".
ولم ينف المؤدن، الذي ساهم في صياغة
وثيقة "أنصفونا" مع شيخه أبي حفص، أن ظروف السجن ساهمت أيضا في توسيع
المدارك العلمية لكثير من حملة العلم من السلفيين بالاطلاع على الأسس
الفكرية للمدارس العلمية الأخرى لدى باقي الحركات الإسلامية، مما ساهم في
قراءة جديدة لأفكار كان يتبناها واضعو المبادرات أو ألصقت بهم، وجاءت
الفرصة لتبيان موقفهم الشرعي منها.
ويؤكد المؤدن، الذي عمل سابقا
إماما وخطيبا بفاس، أن "أزمة النص" حاضرة في الاختلاف بين السلفيين داخل
السجون، حيث التعامل المباشر والسطحي مع النصوص بمعزل عن مقاصد الشريعة
وروح النص، التي كانت تبدو لهؤلاء أنها هادمة للنص والشريعة".
وأشار
المؤدن إلى أن مفهوم ومبدأ "المراجعة" نفسه لقي نفورا واستنكارا لدى
غالبية المعتقلين بسبب ضعف زادهم العلمي، فشنت حرب شعواء على مبادرة الشيخ
أبي حفص دون الاطلاع عليها.
ويحكي المؤدن واقعة جدال حصلت له مع أحد
أتباع هذا الفكر أثناء نشره لمقال في أسبوعية مغربية حول: "حكم الذميّ في
بلاد الإسلام"، حيث رد عليه بأن الرأي محسوم في كتاب: "كشف النقاب عن شريعة
الغاب"، من دون أن يعي التحول الفكري لصاحب الكتاب، وهو أحد أقطاب الجماعة
الإسلامية في مصر.
ويشدد المؤدن على ضرورة التمييز إعلاميا بين أهل
العلم في إعلان المبادرات، وبين من هم أقل منهم في ذلك، معبرا عن ارتياحه
لكون من يعارضون المراجعات هي فئة تفتقر إلى العلم الشرعي ولا تحسب على
طلبة العلم.
واستبعد المؤدن جانب التكتيك في الإعلان عن المبادرات،
بكونها مسوغا لمغادرة السجون، لأن كل دعوى تحتاج إلى دليل، مشيرا إلى نفسه
حيث غادر السجن منذ ثلاث سنوات وما يزال يبشر بجدوى المراجعات الفكرية
ويشارك في الندوات الخاصة بها.
المراجعات مجرد تكتيكات
على
الشط المقابل لتأكيد حضور القناعة التصورية في مسألة المراجعات، يؤكد عبد
الرحيم أبو الفضل (اسم مستعار لأحد السلفيين فضل عدم ذكر اسمه) أنه لا يؤمن
بأن السلفية الجهادية في المغرب قامت بمراجعات، لأنها، حسب رأيه لم تقم
بأعمال عسكرية داخل المغرب مثل السلفية المصرية، وكل الأعمال التي نفذت مثل
16 مايو 2003 أو أبريل 2007 أو مراكش 2011 كانت مجرد أعمال فردية نتيجة
تأثير أوضاع المسلمين في الخارج، ولم تكن نابعة من تخطيط جماعة منظمة.
ويضيف
عبد الرحيم موضحا: " لهذا أغلب من قام بالمراجعات لم يقم بأي عمل مسلح،
مثل الشيخ أبي حفص والخطاب والعلام، ولم يعلنوا الجهاد داخل المغرب، أما
المعنيون بالمراجعات مثل يوسف فكري أو أصحاب 16 مايو، وأعني بهم المنفذين
الذين نجوا من الموت وقت التنفيذ، نجد أن أيا منهم لم يقم بأي مراجعة.
ويزكي
عبد الرحيم رأيه بالقول إن هذا الوضع هو الذي يفسر: "أن حسن الكتاني رفض
التوقيع على مراجعات أبي حفص، زميله، حيث أكد رفضه للمراجعات، لأنه لم يقم
بأي شيء يستوجب مراجعة، فطوال عمره كان داعية فقط".
ويشير عبد
الرحيم إلى أن الذين قاموا بالمراجعات "قاموا بها تحت إكراه السجن، فجاءت
المبادرة بنية مغادرة السجن، لأن أغلب من خرج من السجن من أصحاب المراجعات
نسي مشروعه الذي دعا إليه إبان وجوده في السجن".
ويوضح عبد الرحيم أن الشباب "المؤمن بالمراجعة هم الشباب الذين بقي
معظمهم وفيا لبعض المفرج عنهم مثل عبد الرحيم مهتاد، رئيس جمعية النصير
لمساندة المعتقلين السلفيين".
غير أن عبد الرحيم، وبروح ناقدة، يؤكد أن:
"مشكلة السلفية في المغرب أنها لم تتخلص من كتابات "التكفيريين" وفتاواهم
فحصل خلط كبير بين الفكر الجهادي والفكر التكفيري، رغم أن بينهما خيط رقيق
جدا لا يعلمه كثير من الناس".
ويحذر أبو الفضل من وجود جيل ثالث في
مشروع السلفية ويعد أخطر الأجيال، لأنه جمع بين العلم الشرعي والحركي
واستفاد من العلوم الحديثة ومن التدريب العسكري، جيل بدأ يظهر عندنا في
المغرب ليس له ولاء للمشايخ، بل ولاؤه لأصحاب الثغور، وشيخه كل من حارب
الأمريكان.
لا تجهضوا المراجعات
علي
العلام، أحد الشباب السلفيين المفرج عنهم بعد اعتقال في ملف "الأفغان
العرب"، يشدد من جهته على دعم المراجعات الفكرية للسلفية المغربية لتأهيلها
إلى "حركية سلفية" وتجاوز ما يعترضها من عوائق معرفية ونفسية.
ويوضح
علي العلام في مبادرته، التي حصل إسلام أون لاين على نسخة منها، أن: "ما
يحدث في أوساط الجهاديين ليس ظاهرة نكوص وتراجعات أو انتكاسات بسبب وطأة
السجون، كما يحاول البعض أن يسوق لها بأسلوب الإسقاط البارد والمجحف عليها،
وإنما هو خط مراجعة إصلاحي ممنهج داخل التيار الجهادي، فرضته تحولات
موضوعية وقناعات قبل الاعتقال وأثناءه وحتى بعده، وتحليل للتجربة قادت دعاة
الخط الإصلاحي داخل التيار الجهادي إلى المراجعة الفكرية".
ونبه
العلام إلى بعض العوائق التي تحول وإنضاج المراجعات ومنها:"عدم رغبته في
إعمال عقْله بما قد يجهده في تحمُّل عواقب المراجعة، بما فيه من هجران
الخلان، الذين جعلوا من الانتساب إلى جماعتهم معيار الولاء والبراء، على
خلاف شرع الله تعالى، وذلك من قصور الهمَّة الذي يُلقي بالإنسان إلى
التهلكة، وإنما عليه أن يعلم أن إخوان الصدْق هم الذين جعلوا الإسلام معيار
الولاء والبراء، والطاعة مقياس محبة المسلم من عدمها، والوفاء للمنهج الذي
يدين الله به".
ولفت العلام بكل جرأة إلى أن: "التيار الجهادي في
المغرب لا قدرة له على التأصيل، فما بالك بالجهاد، لأن التيار الجهادي
يقتات على اجتهادات وتأصيلات المشارقة باعتبار فراغ الساحة".
وحذر
العلام من: "فشل أو ربما إفشال مراجعات السلفية الجهادية في سجون المغرب،
إن لم يتم التحرك والتنسيق بين من تجمعهم نفس الأهداف، لأن التعامل معها
كان يفتقر للثقة من قبل الدولة، وإذا لم تمارس الدولة المراجعة لسياساتها
الأمنية وخلفيتها المتقادمة، فمن الأكيد أن النتائج ستكون كارثية".
ليؤكد
أن: "المراجعات، التي تنطلق ذاتيا وتختمر في الأذهان نظريا هي التي تنتج
المواقف والممارسات العملية على الأرض، بحيث تأخذ وقتها في التفكير بشكل
أعمق من التراجع السطحي عن العنف، ومجرد هدنة حتمها عدم توازن القوى، بينما
تعد المراجعات الفكرية تحولا عمليا حقيقيا في اتجاه مضاد ومختلف هز البنية
الفكرية هزا، واعتذارا معلنا أو مبطنا عن مواقف سابقة.
وبعيدا عن
ثنائية التكتيك والقناعة في شأن المراجعات، يبدو أن الجهات الأمنية تيقنت
أن شيوخ السلفية، ذوي الحضور الإعلامي والعلمي، ليس لديهم أي مشكل مع مفهوم
الجهاد ومسألة النهي عن المنكر، لذا اتجهت إلى محاورة القيادات الجديدة في
السجون، إذ لا يمكن المساواة بين حوار شيخ معروف بكتبه ومساره العلمي
والدعوي وبين شخص كان يلقي خطبه أمام أيمن الظواهري في أفغانستان.
غير
أن من شأن دعم هذه المراجعات وجعلها ورشا مفتوحة للنقاش وتبادل الرأي،
وفسح الباب للعلماء خارج السجون لمناقشة أصحاب هذه الأفكار، أن يزحزح
الكثير من قناعات الشباب التابع وتوجيهه الوجهة المطلوبة.