تعتبر المراجعة الدستورية التي اعتمدها المغرب محطة حاسمة في رسم
التوجهات السياسية العامة التي سيسير عليها المغرب للعقود القادمة، كما
تمثل مناسبة لإعادة النظر في بنية الدولة والنظام السياسي على أسس جديدة.
وهذا ما يتطلب مناقشة مسألة بقاء المؤسسات الدستورية المنتخبة في ظل
الدستور المنتهية صلاحيته بمجرد الإعلان الرسمي عن الدستور الجديد، بحيث
تثار على هذا المستوى مدى الشرعية السياسية للبرلمان الحالي وللجهات ولباقي
المؤسسات.
فهذه المؤسسات المنتخبة في ظل دستور 1996، من جهات جماعات محلية وغرف
مهنية وبرلمان بغرفتيه، تم تشكيلها في ظل نظام دستوري قديم، وبالتالي لا
منطق ولا معنى لبقاءها.
شروط تنزيل الإصلاح الدستوري
إن المراجعة الدستورية تبقى مجرد عملية شكلية إذا لم يعقبها تجديد شامل
لجميع الهيآت المنتخبة، فلا يعقل أن نناقش مآل مجلس النواب لوحده ونترك
مجلس المستشارين الذي يعتبر مجال الفساد الانتخابي بامتياز، كما لا يمكن أن
نترك الجهات والجماعات المحلية التي تم انتخابها سنة 2009 لتكون أساس
تشكيل الغرفة الثانية للبرلمان.
فتنزيل النص الدستوري على أرض الواقع يتطلب بالأولوية إعداد شروط انتخاب
المجالس الجديدة، ويبدأ التنزيل بمصادقة البرلمان الحالي على قوانين
انتخاب البرلمان القادم، ولا يجوز له بصريح الفصل 176 من الدستور الجديد أن
يشرع لغير ذلك وإلا كان الأولى أن يتم التنصيص على ذلك بوضوح، بمعنى أن
مهام البرلمان الحالي محدودة بشكل شبه حصري.
أما الحكومة الحالية فلا يمكن أن تتجاوز وظيفتها تصريف الأعمال، لأن
الأحكام الانتقالية للدستور الجديد لم تسمح لها بالوجود أصلا خلافا لمؤسسات
أخرى تم التنصيص عليها بصراحة (البرلمان، المجلس الدستوري، المجلس الأعلى
للقضاء...)، وبالتالي بمجرد انتخاب البرلمان الجديد يتم تشكيل الحكومة
الفعلية.
كما أن بقاء الجماعات المحلية والغرف المهنية يصبح بدون معنى في ظل نظام
جهوي جديد يتطلب إعادة النظر في الأساس في دور هذه الجماعات وفي مهامها
واختصاصاتها وفي نظامها المالي بما يتلاءم مع ضرورة إقرار جهوية تدبيرية
وتنموية حقيقية، كما أن الأساس القانوني لهذه الجماعات ستغير جذريا عبر
اعتماد قانون تنظيمي جديد يضم جميع هذه المؤسسات الترابية.
وهنا يكمن الإشكال الأساسي الذي لا ينتبه الجميع إليه، فالإصلاح
الدستوري المقترن ببقاء المؤسسات المنتخبة لما بعد 2011 سيفرغ عملية
الإصلاح من مضمونها الأساسي، وسيعيد نفس النخب الفاسدة إلى البرلمان
الجديد.
فالمنطق يفرض ملاءمة المراجعة الدستورية مع متطلبات الإصلاح السياسي،
فالجماعات المحلية المنتخبة سنة 2009 شهدت أكبر نسب من الفساد الانتخابي
وتحكم السلطة في عمليات تشكيل الأغلبيات المسيرة لها، وأية انتخابات
برلمانية في ظل وجود هذه المؤسسات ستشهد نفس التشكيلة المتحكم فيها عبر
آليات وزارة الداخلية وجيش المنتخبين المتواجدين على أرض الواقع.
فانتخاب المؤسسات التشريعية الجديدة، التي يُفترض أن تقوم بتنزيل
الإصلاح الدستوري والسياسي على مستوى القوانين والأنظمة والتشريعات
اللازمة، سيؤدي في ظل وجود الجماعات المحلية الحالية إلى إفراز نفس الفساد
الانتخابي ونفس النخب الفاسدة.
كيف سينتخب البرلمان القادم؟
إن من يرسم جزءا كبيرا من خريطة الانتخابات البرلمانية هم رؤساء وأعضاء
الجماعات المحلية والغرف المهنية، فالمجالس الجماعية تضم جيشا من المنتخبين
الذين يملكون اختصاصات تتعلق بالحياة اليومية للمواطنين ويتصرفون في
ملايير الدراهم من الميزانيات السنوية، ومستشارو الغرف المهنية في علاقة
مباشرة مع مئات الآلاف من التجار والصناع والحرفيين.
كما تمتلك وزارة الداخلية آليات حاسمة في رسم التوجهات العامة للعمليات
الانتخابية، خاصة وأن جهات في السلطة حاولت منذ مدة توزيع مجموعة من العمال
والولاة على مناطق ذات حساسية انتخابية من أجل تهيئة المجال لاكتساح
استحقاقات الانتخابات التشريعية.
وبالنظر لكل هذه الاعتبارات لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي حقيقي مع
بقاء النخب المحلية المنتخبة منذ 2009 لتستمر إلى غاية 2015، لأن المجالس
الجماعية والإقليمية والمهنية الحالية أفرزتها الكوارث الانتخابية لسنة
2009.
إن وجود المجالس الجماعية والمهنية الحالية عند حلول موعد الانتخابات
البرلمانية لن يؤدي إلا إلى انتخاب نفس النخب الفاسدة "والأعيان وأصحاب
الشكارة"، ووزارة الداخلية اعتادت تاريخيا الاعتماد بالكامل على هذه الفئة
التي يسهل التحكم فيها وتوجيهها بتعليمات شفوية ومباشرة، وعادة ما يؤدي
التقطيع الانتخابي إلى تقوية حظوظ هذه الفئات المفسدة للعمليات الانتخابية.
فكيف سيتم تنزيل الإصلاح السياسي والدستوري في ظل مجالس محلية جلها مزور ومتحكم فيه من قبل ما تبقى من الأصالة والمعاصرة؟
وهل سيقبل المغاربة بنصف إصلاح (دستوري) نصفه الآخر حاسم في رسم توجه العملية السياسية برمتها؟
فلا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي حقيقي دون إجراءات سياسية على أرض
الواقع، ولا يمكن تصور انتخاب برلمان حقيقي يضطلع بالمهام التشريعية
والرقابية الكبرى في ظل هيمنة الفساد على الجماعات المحلية والغرف المهنية
المتحكمة في صنع الخرائط الانتخابية والتحكم في نتائج الاقتراع البرلماني
عبر الأموال والفساد الانتخابي واستعمال وسائل الجماعات وتدخل السلطة
بشبكاتها الواسعة وآلياتها الرهيبة.
فطبقا لصريح نصوص الدستور الجديد يتعين دعوة البرلمان الحالي لدورة
استثنائية خلال شهر غشت من أجل اعتماد نظام انتخابي لمجلسي البرلمان
واعتماد نظام خاص بانتخاب الجهات والجماعات الترابية الأخرى، على أساس دور
البرلمان الحالي سيقتصر على إعداد أرضية انتخاب البرلمان القادم الذي
سيتكفل بانتخاب الحكومة الجديدة وبإعداد الترسانة القانونية لتنظيم هذه
المؤسسات.
فالمنطق الدستوري والسياسي يفرض تنظيم انتخابات محلية وجهوية في يوم
واحد منتصف شهر نونبر القادم لضمان تشكيل مؤسسات منتخَبة في ظل الدستور
الجديد، وبناء على ذلك يمكن انتخاب برلمان جديد بمجلسيه أواخر شهر مارس
القادم وفق قواعد سياسية واضحة، وهذه الأجندة حتى وإن كانت ستعرف ضغطا
زمنيا كبيرا، إلا أن وزارة الداخلية أصبحت معتادة على إجراء سلسلة المحطات
الانتخابية في آن واحد.
فهذه العملية تعتبر أساسية وأكثر ملاءَمة مع منطق الديمقراطية، ولا يمكن
بناء على ذلك أن تتجاوز الفترة الانتقالية الفاصلة بين الانتخابات
التشريعية وانتخابات الجهات والجماعات أربعة أشهر، بحيث يفرض المنطق أن
يكون الربع الأول من سنة 2012 آخر أجل للتجديد الشامل لجميع المؤسسات
الدستورية المنتخبة.
فالحلول الدستورية لا تعدم، كما أن منطق الإصلاح يفرض انتخاب مؤسسات
جماعية وجهوية وتشريعية جديدة تسمح بحسن تنزيل الإصلاح الدستوري، فلا يعقل
أن تستمر الفترة الانتقالية في ظل الدستور الجديد إلى غاية 2015 أو لما
بعدها، فالمغرب يحتاج حاليا لإعادة النظر في بنية الدولة وفي وظائف
مؤسساتها الدستورية، ولا يعقل أن نلجأ للحلول الترقيعية لتطبيق نصف إصلاح
ونؤجل النصف الآخر لمرحلة لاحقة بشكل قد يؤدي إلى إفراغ العملية من
مضمونها.