ضاحية لبنان الشمالية حقيقة.. وقصص عن تهجير للمسيحيين
ليس قرار النأي بالنفس في جلسة الحوار السابقة
هو ما انتظره القابضون على عنق الشمال. في الحقيقة هؤلاء لم يُمثلوا على
الطاولة، ولم يكن لهم كرسي مخصّص ينقل وجهة نظرهم. على كل حال، يبدو أنهم
ليسوا بحاجة إلى قرارات خصوصاً أنهم إتخذوا موقفاً محايداً عن الدولة
اللبنانية فدخلوا وأدخلوا معهم الشمال في صلب الأحداث السورية، وبات مصطلح
ضاحية لبنان الشمالية أمراً عادياً على اللبنانيين التعايش معه.
كان يجب على الملتئمين حول طاولة الحوار، معرفة أن ترك العابثين بأمن
طرابلس ومحيطها لا بد وأن يخلع هذه المنطقة عن خريطة الجمهورية اللبنانية،
التي باتت شاهدة على مربّع عزل نفسه أو عزله الممسكون به لأسباب سياسية
وطائفية. ضاحية لبنان الشمالية، معادلة أرستها الأحداث في سورية، لتصبح
فعلاً لا قولاً منطقة عازلة خارجة عن سلطة الأمن المركزي.
صور الحرب
ليست تلك الدعوات التي نادت بإخراج الجيش من منطقة الشمال سوى ختم على
شهادة المولود الجديد. وليست قصص التهجير التي يتعرّض لها عدد من المسيحيين
في المناطق الشمالية سوى إثبات آخر على ذلك. بنفس النسبة التي تتسارع فيها
الأحداث في الداخل السوري، تضاعفت المظاهر التي تؤكّد سقوط الدولة وهيبتها
في مناطق الشمال اللبناني. في وقت لا يتردد فيه الداعية السلفي عمر بكري
عن القول بأنه “ شئنا أم أبينا نحن بصدد ضاحية شمالية للبنان بمقابل
الضاحية الجنوبية”. ناهيك عن عمليات الخطف التي شهدها عدد من المناطق
الواقعة على الحدود، هذه العمليات التي أعادت إلى الاذهان صورة الحرب
الأهلية لتشكّل بذلك نقطة تحوّل أساسية في الداخل اللبناني”.
وليست تلك التسمية بالغريبة عن المنطقة، فالضاحية في المعنى الشائع غالباً
ما عكست فكرة الهامش الخارج عن القانون. بالفعل هذه هي صورة طرابلس
وأخواتها الشمالية. تبادل إطلاق نار بين عناصر لبنانية وعناصر أخرى أو
بينها وبين الجيش السوري على الحدود، بالإضافة إلى أعمال حرق الممتلكات
لأسباب طائفية ومذهبية. أعمال الخطف الحاصلة وأعمال التهجير كلّها تطغى
شمالاً، في وقت لم يفلح فيه القرار السياسي في لجم كل هذا الفلتان هائل
الحجم.
«ليست زرقاء»
لا شيء أكثر غرابة اليوم من تعاطي الدولة اللبنانية مع موضوع الشمال.
فالحكومة التي نأت بنفسها عن الداخل السوري، لم تتأخر في النأي بنفسها عن
الشمال، لا بل دفعت تصرفاتها غير المدروسة إلى أخذ الشمال بعيداً من لبنان
بأسرع مما كان متوقعاً. “ أهالي شمال لبنان يمثلون خمس أو سدس مجمل السكان،
ومساحة عكار تشكل ربع مساحة لبنان. ليست هذه المعلومات بالأمر السهل” هذا
ما يؤكّده نائب مستقبلي عن منطقة طرابلس أقر بخسارة تياره للشارع السني
هناك. لم تعد طرابلس زرقاء أو أقله لم تعد الأكثرية فيها كذلك “رغم قيام
تيار المستقبل بجهود سياسية لاحتواء المظاهر غير المألوفة التي ظهرت في
الشهرين الماضيين”. هذه الحقيقة لم تُبحث على طاولة الحوار بحسب ما يقول
“غاب الواقع المستجد عن البيان، وتناسى المسؤولون وجودا لجماعات سلفية
غاطسة في معمعة الداخل السوري”.
ريحٌ سورية
أهم ما يمكن تسجيله بحسب النائب أن “ الجماعات المسيطرة اليوم على
الشمال في لبنان لم تكن ممثلة على طاولة الحوار، وبالتالي لن تكون معنية
بالبيان الذي صدر، ولا حتّى البيانات التي ستصدر في وقت لاحق، خصوصاً لجهة
ما يتعلق بموضوع السلاح” إذ “ ترى هذه الجماعات في سلاحها أساساً لاستكمال
المعركة المصيرية ضد نظام بشار الأسد، لا بل تعتبر هذه الجماعات أن طرابلس
والشمال أصبحا أقرب لمحافظة سورية منهما لمحافظة لبنانية، وبالتالي هم
سيتصرفون على أساس أنهم معنيون بمعركة السوريين، لذا سيعملون على تأمين كل
المساعدات العسكرية والإنسانية لهم”. أما في يتعلق بالمعارك المتكررة بين
جبل محسن وباب التبانة فيقول إن “ الأمر ليس بجديد لكنه كان يُحل في كثير
من الأحيان بقرار سياسي عندما كانت سورية قادرة على فرض قرارها في لبنان،
لكن اليوم تغيرت المعادلات وأي ريح سورية لا بدّ لها أن تضاعف لهيب النار
الذي يحرق الشمال كل فترة”.
ولا تعد هذه الاشتباكات جديدة، فالمنطقة شهدت مناوشات واشتباكات على
خلفية تباعد مواقف سكان المنطقتين مما يجري في سورية، والتظاهرات المستمرة
في المدينة الداعمة للثورة السورية، كما أن منطقة عكار، والضنية إضافة إلى
البقاع الشمالي من أكثر المناطق التي استقبلت لاجئين سوريين من مناطق
الصراع، وتشهد احتقاناً كبيراً بين مناصري الرئيس بشار الأسد ومعارضيه.
مناطق معزولة
لكن من الواضح أن حكومة نجيب ميقاتي والرئيس ميشال سليمان يتعرضان إلى
ضغوط متزايدة من مختلف الاتجاهات لتحديد موقف مع هذا الطرف، أو ذاك في
الأزمة السورية، وتطرح أحداث طرابلس تساؤلات حول قدرة الحكومة على ضبط
الأوضاع الداخلية في لبنان. هذا ما ظهر أخيراً في العديد من الأحداث التي
مرّت بها المنطقة، فأظهرت رئيس الحكومة عاجزاً عن الضرب بيد من حديد، لا بل
ظهر بمظهر الضعيف الراضخ للمشهد العام.
ظهر كمن يستجدي رضاء الجماعات الحاكمة في منطقته، واضعاً المناطق
اللبنانية أمام قانون جديد يتيح لها الفوضى والتسلّح والتصرف خارج إطار
الدولة، لتعيد الاشتباكات المسلحة طرح مسألة السلاح في لبنان، واصرار بعض
القوى والأحزاب على الاحتفاظ به، تحت أسباب ومسميات مختلفة، وليطرح الإعلان
عن ضاحية لبنان الشمالية، السؤال عن الصراع الطائفي والمذهبي المتصاعد
الذي يمكن أن يدفع مناطق لبنانية أخرى لعزل نفسها الواحدة تلو الأخرى.