محميّة أرز الشوف الطبيعية أكبر من أن تختزل بكلمات، فاللغة تتكسر عند جمال صخورها وروعة انسياب اشجارها عبر المنحدرات، في لوحات ساحرة لا يمكن ان تجاريها يد فنان ترسم وتلون وتخط. والمحمية الى جمالها وطيب مناخها، تمثل قيمة طبيعية وبيئية استثنائية في لبنان والمنطقة، يكفي ان نذكر انها تعتبر معبرا عالميا رئيسيا للطيور المهاجرة، وتشكل آخر امتداد جنوبي للأرز اللبناني، وأكبر محميّة طبيعية في لبنان.
هذا أقل ما يمكن أن يقال عن محميّة أرز الشوف الطبيعية التي تشكل لوحة طبيعية نادرة وسط مرتفعات شاهقة وأدوية شديدة الانحدار تحتضن تنوّعاً بيولوجياً غنيا بالأشجار والنباتات المختلفة منها عشرات الأنواع تحمل اسم لبنان، وعشرات الأنواع المهددّة بالانقراض على الصعيدين العالمي والوطني، كما أن هذا التنوع يطال أعداداً كبيرة من الحيوانات والطيور.
تمتد محمية أرز الشوف على مساحة 165 كلم2. أي نحو 2 بالمئة من مساحة لبنان، وتم تصنيفها في العام 2005 من قبل اليونيسكو "محمية مدى حيوي" وهي تضم محمية أرز الشوف بالاضافة إلى القرى المحيطة بها ومستنقع "منطقة عمِّيق" الذي يعتبر أهم منطقة رطبة في لبنان. وتشكل ملاذاً نادراً للحياة البريّة في لبنان، وتعتبر ثاني أهم ممر للطيور المهاجرة بين أوروبا وأفريقيا، ويقع ما نسبته سبعون بالمئة منها في قضاءي الشوف وعاليه في جبل لبنان وثلاثون بالمائة في البقاع الغربي، وتتولّى "جمعية أرز الشوف" إدارة المحمية منذ نشوئها بموجب قانون صادر عن مجلس النواب عام 1996.
سياحة بيئيةتستقبل المحمية سنوياً عشرات الآلاف من الزوّار من محبي الطبيعة وممارسي النشاطات المتنوعة المتاحة، وأهمها السير في الممرات داخل الغابات، والتعرف على النباتات والأشجار، ومراقبة الطيور والحيوانات، والمشي وسط الثلوج في الشتاء، ومراقبة النجوم، بالاضافة الى نشاطات التوعية البيئية الموجهة الى طلاب المدارس والجامعات.
وتشمل المحمية سبع غابات أرز، ثلاث منها رئيسية: غابة أرز بلدة عين زحلتا والقرى المجاورة لها، غابة أرز الباروك وغابة أرز المعاصر. وهي تتميز بتنوع بيولوجي غني جداً وتكاثر طبيعي قل مثيله.
بالنسبة لغابة أرز عين زحلتا (110 هكتارات) فتوجد فيها بحيرة جبلية أنشأتها جمعية أرز الشوف بتمويل من السفارة اليابانية، بهدف المحافظة على استقرار الحياة البرية وإخماد الحرائق في حال نشوبها. وهناك ممرات للمشي وموقع لمراقبة الطيور والحيوانات قرب البحيرة.
أما غابة أرز الباروك (400 هكتار ) فهي أكبر غابات الأرز في لبنان، تحتوي على عدة ممرات لكافة الاعمار، ويمكن للزوار دخولها بواسطة حافلة أو سيراً على الاقدام. أما غابة أرز المعاصر (7 هكتارات) فتضم اكثر أشجار الارز المعمرة. وفيها ممرات لزيارات متنوعة بحسب الوقت والمسافة.
وتقام في المحمية نشاطات متنوعة بمشاركة السكان المحليين والجمعيات الاهلية والبلديات والمدارس وجهات أخرى معنية،
يتم تحفيز الوعي البيئي من خلال السياحة البيئية، وتنظيم رحلات ميدانية ومجانية الى المحمية لسكان القرى المحيطة.
تنمية ريفيةباشرت جمعية أرز الشوف بتنفيذ مشروع التنمية الريفية منذ العام 1999 بدعم من السفارة الكندية والهادف إلى المحافظة وتطوير الحرف التقليدية، الحفاظ على المعلومات المتوارثة عن الموارد الطبيعية وإقامة مشاركة وتواصل مع المجتمع المحلي الذي ساهم بمساعدة مجموعة من العائلات، إذ يتم حالياً إنتاج ما يزيد عن 70 نوع من المأكولات الريفية التقليدية (عسل، مربيات، أعشاب، مقطرات، حرفيات...) وتدريب السيدات على الطرق الصحيحة والحديثة لتصنيع وحفظ المنتجات.
وتقوم محمية أرز الشوف بتعربف الزائر على تراث وتقاليد المجتمع الريفي اللبناني عبر إنتاجه الغذائي من مربيات وأعشاب وشراب ومقطرات والتي يتم ترويجها على مداخل المحمية حيث يتم بيعها. ومنذ سنة تقريباً بدأت الجمعية بالعمل مع سيدات القرى المحيطة بالمحمية بمفهوم جديد، وذلك باستعمال مشاغل مجهزة بكافة المعدات من طناجر، كركات، مجلى، ستاندات، طاولات وكلها من مادة الستنلس ستيل للحصول على منتج صحي وموحد بين كل السيدات باستعمال ذات المواد والمقادير. وقد أصبح لجمعية أرز الشوف مشغلاً جاهزاً بكافة المعدات اللازمة في بلدة مرستي (تمويل البنك الدولي عبر مجلس الانماء والاعمار)، والآن تقوم الجمعية بتأهيل وتجهيز ثلاثة مشاغل، إثنان منها في منطقة الشوف الأعلى وبالتحديد في بلدتي جباع وبعذران والثالث يقع في منطقة المناصف في بلدة كفرفاقود ضمن مشروع السيمي الزراعي (تمويل من البنك الدولي عبر مجلس الانماء والاعمار).
أبحاث علميةيجري العمل على تعزيز مركز الأبحاث والمراقبة في المحمية، من أجل تقديم معلومات وخبرات دقيقة تساعد إدارة المحمية بشكل سليم عبر اتخاذ قرارات مبنيّة على أسس علمية والمساهمة في الحفاظ على الإرث الطبيعي والثقافي. ويؤمل أن يصبح مركزاً للتدريب على إدارة الموائل الطبيعية. ومن أهم نشاطاته دراسة التنوع البيولوجي ومراقبته بالتعاون مع الجامعات ومراكز الأبحاث في لبنان والخارج، والعمل لإيصال هذه المعلومات الى العامة من الناس وخاصةً طلاب المدارس بطريقة مبسطة للاستفادة منها في التوعية البيئية.
وقد أحصت الدراسات تنوعاً بيولوجياً غنياً جداً في المحمية. فعلى صعيد النباتات، تم تسجيل ما يزيد على 500 نوع، منها 30 نوعاً يحمل اسم لبنان، مثل البربريس اللبناني وغرنوقي لبنان والقرنفل السحاري اللبناني. وهناك 25 نوعاً مهدداً بالإنقراض على الصعيدين العالمي والوطني، مثل سحلب الأناضول والفصة الزراعية والنقل المثاني، بالاضافة الى 50 نوعاً متفرداً في المنطقة مثل توليب أوشيه وسيلينة المكمل، و12 نوعاً نادراً مثل جُلبان لبنان وباذنجان الغول، و30 نوعاً من النباتات الطبية مثل الورد البرِّي والبيلسان، ومايزيد على 50 نوعاً من النباتات الغذائية مثل العكّوب والهندباء. هذا بالإضافة الى عدد كبير من النباتات العطرية. وفي المحمية أيضاً 24 نوعاً من الأشجار بالإضافة الى الأرز اللبناني، وأهمها الغبيراء والعفص والملّول والسنديان والقيقب والقطلب وخوخ الدب والزعرور والإجاص واللوز والتفاح البريّ.
الحياة البريةوتعتبر محمية أرز الشوف أيضا، منطقة هامة للطيور المهاجرة بين أوروبا وأفريقيا، وقد تم إحصاء نحو 250 نوعا من الطيور فيها، بينها أربعة أنواع مهددة على الصعيد العالمي كالدرسة الرمادية والعويسق، و10 أنواع مهددة على الصعيد الإقليمي كالنسر وعقاب سقعاء الصغرى، وهناك أكثر من 30 نوعاً معششاً كالبيدق والنسر والحجل والهدهد، بالإضافة الى 10 أنواع محتملة التعشيش مثل ملك العقبان والبومة الاذناء.
وتم التعرف على 32 نوعاً من اللبونات، منها 12 نوعاً مهدداً بالإنقراض على الصعيد العالمي كالذئب والغرير، و3 أنواع مهددة على الصعيد المحلي هي الهر البري والهر النمر والذئب، و9 أنواع نادرة منها الخفاش القديم والوطواط العمري.
على صعيد الزواحف والبرمائيات، تم إحصاء نحو 27 نوعاً، منها الحرباء المهددة بالإنقراض على الصعيد العالمي، والنقّاق ذو القيمة الاقتصادية، ونوعان متفردان هما السقاية الجبلية والقاروت، بالإضافة الى نوعين نادرين هما السقاية الجبلية وحنش الباروك الذي تم تسجيله من قبل فريق المحمية بالتعاون مع الجامعة الأمريكية في بيروت كنوع جديد على لائحة الزواحف العالمية.
التوعية البيئيةأما رؤية برنامج التوعية البيئية، فهو تعريف أكبر عدد ممكن من العامة على ضرورة المحافظة على الطبيعة والتوازن البيئي وأهمها المناطق المحمية، ويعمل القيمون على المحمية لتحقيق هذه الرؤية من خلال عدة نشاطات ممكن أن تُنفذ داخل وفي محيط المحمية، إذ تقوم جمعية أرز الشوف منذ العام 2000 بحملات توعية في القرى المحيطة بالمحمية نذكر منها: لقاءات ومحاضرات في المدارس المحيطة بالمحمية ومدارس أخرى في لبنان، ورش عمل في السياحة والتوعية البيئية لمجموعة من الشباب والشابات من القرى المحيطة بالمحمية، زيارة آلاف من طلاب المدارس إلى المحمية وتقديم لهم كافة المعلومات من خلال الشرح المبسط، عروضات مرئية ومسموعة، ألعاب بيئية وغيرها، سباق في الطبيعية (Rally for Nature) ضمن النشاطات اللاصفية، وتنظم جمعية أرز الشوف كل عام سباق في الطبيعة يشارك فيه حوالي 1000 طالب وطالبة من مدارس مختلفة في لبنان من عمر 12 - 14 سنة (10 الى 20 طالب او طالبة من كل مدرسة)، ويهدف الـ Rally for Nature إلى رفع الوعي لدى الطلاب للتعرف على محمية أرز الشوف وأهمية المحافظة على التنوع البيولوجي الموجود فيها، واكتشاف الممرات الطبيعية داخل المحمية وتبادل الخبرات والمعلومات بين الطلاب المشاركين.
الاجراءات التنظيمية للسباقخلال السباق يلعب الطلاب ضمن مجموعات مؤلفة من 10 طلاب، تحمل كل مجموعة اسماً معيناً، بحيث يتم توزيع إشارات خاصة لذلك، تمر كل مجموعة على 15 محطة مختلفة موزعة على الممر المخصص للسباق داخل المحمية. وفي كل محطة تُسأل المجموعة سؤالا واحدا أو يطلب منها تنفيذ نشاط ما، وإذا كانت الاجابة صحيحة تتابع المجموعة مسيرتها الى المحطة التالية. أما اذا كانت الاجابة خاطئة فيجب على طالب واحد من المجموعة أن يخرج من السباق على ان تقوم المجموعة باختيار ذلك الطالب وهو الأضعف بينهم.
عند وصول كل مجموعة إلى نقطة النهاية، يتم تسجيل عدد المشاركين الذين وصلوا بالاضافة الى الوقت الذي استهلكته المجموعة للوصول. والمجموعة الفائزة هي المجموعة التي تسجل أقل وقت وأكبر عدد من الطلاب الذين يصلون الى نقطة النهاية. ان المجموعات الاربع الفائزة في الجولات الاربع الاولى للسباق تتنافس على المركز الاول خلال الحفل النهائي والذي يتم خلاله إعلان نتائج المسابقة البيئية المعلنة للسنة ذاتها.
قلعة شقيف تيرون (قلعة فخر الدين)وتتميز المحمية بمعالمها التاريخية، ومنها قلعة شقيف تيرون التي تقع في بلدة نيحا على بعد 33 كلم من بيروت، وهي محفورة في قلب جرف صخري يطل على وادي بسري، وهذه القلعة المذكورة في بعض النصوص "مغارة شقيف تيرون" وردت في كتابات الصليبين منذ القرن الثاني عشر ميلادي، ويدعوها سكان القرى المجاورة قلعة نيحا لأنها تقع في منطقة جبل نيحا، وبحكم موقعها الاستراتيجي المسيطر على الطريق الممتد بين صيدا والبقاع والشوف، أصبحت حصناً عسكرياً يتيح لحاميته المقاومة والصمود لأشهر طويلة، وحسب المصادر ترافقت بدايات القلعة مع اسم شيخ درزي أو نصيري يملكها اسمه الضحّاك بن جندل التميمي نسبة إلى أصله في وادي التيم (الثلث الأول من القرن الثاني عشر ميلادي).
ونظراً لأهمية الموقع الكبيرة، تعرضت القلعة للعديد من الاحتلالات والكرّ والفرّ وإعادة السيطرة، كونها شكلت هدفاً دائماً للحكام والجيوش المتعاقبة، يُذكر منها:
السلاجقة - اتابك دمشق شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك بوري (1134 م) انتزعها من الضحّاك بن جندل.
الصليبيون (أواسط القرن الثاني عشر ميلادي).
الأيوبيون (1165 م).
الصليبيون مجدداً (1182 م).
الأيوبيون – الملك صالح اسماعيل (ملك دمشق - 1238 م) وبعد عدة أعوام عادت إلى عهدة الصليبيين بموجب معاهدة.
والي صيدا سعد الدين بن نزار (1251 م).
الصليبيون (مجدداً 1257 م) هبة إلى الصليبيين التوتونيين (أصلهم ألمان).
التتار – شهاب الدين بن بحتر (1260 م) احتلها واحرقها.
المماليك – الظاهر بيبرس (1270 م) رمّمها وحصّنها.
منذ العام 1516م وحتى أوائل القرن العشرين ظلت تحت سيطرة أمراء الجبل والجيوش العثمانية، وفي العام 1585م لجأ إليها حاكم الشوف آنذاك الأمير قرقماز (والد فخر الدين الثاني) بعد أن طارده العثمانيون بتهمة السطو على خزينة السلطنة في جون عكار، وتوفي بعد ذلك بقليل بعد انتقاله إلى مغارة قرب جزين.
عرفت هذه القلعة في تاريخ لبنان الحديث "بقلعة فخر الدين" عندما اتخذ منها الأمير المعني فخر الدين الثاني ملجأ في العام 1633م بصحبة عائلته وبعض المقربين، على أثر هزيمته أمام الجيوش العثمانية في عهد احمد باشا كجك، وبعد حصاره لفترة طويلة وصمود الأمير لوث أحمد باشا المياه الجارية إلى القلعة بالدماء وكروش البهائم، بعد اكتشاف المجاري الجوفية من نبع الحلقوم القريب، عندها هرب الأمير واختبأ في مغارة جزين، حيث القي القبض عليه. وتروي إحدى الأساطير الشعبية انه في خضم هذه الأحداث انتحرت ابنة الأمير فخر الدين مع حصانها بعد ان عصبت عيناه وقفزت من أعالي القلعة، أما الأمير الأسير فاقتيد إلى اسطنبول وأعدم هناك في العام 1635 م.