ما تريده امريكا وما لا يريده للبنان
امريكا وايران تتصارعان في لبنان وعليه منذ اكثر
من عقدين. تتصارعان ايضاً على مستوى المنطقة. لبنان، في سياق هذا الصراع،
ساحة وواجهة. فيه تتبدى فصول الصراع كما اشخاص اللاعبين وادوارهم، محلياً
واقليمياً.
رجل امريكا في المشهد اللبناني مساعدٌ لوزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون.
إنه الديبلوماسي المحترف جيفري فيلتمان الذي كان شغل، عشيةَ حرب ‘اسرائيل’
العدوانية على لبنان والمقاومة في العام 2006 وغداتها، منصبَ سفير واشنطن
في بيروت. خلال ولايته، لعب فيلتمان دوراً لافتاً في خدمة مصالح بلاده ودعم
حلفائها، قوى 14 آذار وحكومة فؤاد السنيورة المنبثقة منها، وفي مناهضة
اعدائها، قوى 8 آذار والمقاومة المعقودة اللواء لحزب الله.
توقيت زيارة فيلتمان للبنان كانت مدروسة. فقد جاءت متزامنةً مع زيارة
النائب الاول للرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي. التزامن كان لتحقيق التوازن،
ثم لكسر التوازن الحاصل بغية إحداث اختلال في موازين القوى لمصلحة امريكا
وحلفائها قبل الإنتخابات المنتظرة صيفَ العام 2013.
فيلتمان جاء مدججاً بعضو مجلس الشيوخ جوزف ليبرمان، السناتور اليميني
المتطرف والمعروف بتأييده الفاقع لـِ ‘اسرائيل’. الاول ركّز في لقاءاته مع
رئيسيّ الجمهورية والحكومة واركان المعارضة (قوى 14 آذار) على قضايا لبنان
الداخلية. الثاني ركّز في جولته على المناطق الحدودية في شمال البلاد على
الأزمة السورية وانعكاساتها على لبنان.
رحيمي جاء معززاً بوزراء الاشغال العامة، العدل، الإتصالات، الطاقة
وغيرهم من كبار موظفي رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية. الوفد الإيراني
الموسّع ركّز على بحث وتوقيع مجموعة من الإتفاقات ومذكرات التفاهم في حقول
الصناعة والتجارة والإتصالات والطاقة. غير ان نشاط رحيمي الابرز تجلّى
بلقائه الامين العـام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي اكد ‘ثبات المقاومة
على نهجها وطريقها ويقينها بالإنتصار وقدرتها على مواجهة كل التحديات
الآتية’. فوق ذلك، حرص رحيمي على تتويج زيارته برحلة الى بلدة مارون الراس
الحدودية الجنوبية مستطلعاً، بمنظار عملاق، المستوطنات الإسرائيلية في
الجوار.
جال ليبرمان في الشمال متفقداً النازحين السوريين المؤيدين للمعارضة،
بينما جال رحيمي في الجنوب متفقداً مقاتلي المقاومة اللبنانية في مواجهة
‘اسرائيل’…هل هذه خلاصة الاسبوع الاميركي الإيراني في لبنان؟
كلا بالطبع. فيلتمان اثار قضايا عدة، اقليمية وداخلية، واطلق مواقف
وتحذيرات ونصح حلفاءه بإتخاذ قرارات بشأنها. رحيمي بحث مع المسؤولين وقادة
المقاومة قضايا حساسة لم يتسرّب بشأنها معلومات وافية.
لعل الهمّ الرئيس لفيلتمان كان ايران وضرورة عدم إسهام لبنان، خصوصاً
قطاعه المصرفي، في ‘الإلتفاف’ على العقوبات المفروضة عليها. قال للمسؤولين
ولأركان 14 آذار: ‘يجب عدم استغلال السرية المصرفية في لبنان للإلتفاف على
العقوبات النافذة بحق ايران وحزب الله وسوريا. عدم الإلتزام بالعقوبات
سيكون له تداعيات خطيرة على القطاع المصرفي. واذا كان البعض ينوي التحايل
على العقوبات لتمكين ايران من انتزاع عقود غاز وكهربـاء وخلافهما، فإن
حكومة لبنان ستواجه مشاكل معقدة مع المجتمع الدولي’.
بعد همّ ايران يأتي همّ سوريا الذي هو همّ قوى 14 آذار ايضا. تسرّب من
اللقاءات ان فيلتمان لم يوفّر لحلفائه اللبنانيين اي معلومات او ضمانات حول
ما يمكن ان تنتهي اليه التطورات في سوريا. مع ذلك، حرص على ترداد لازمة
رئيسه اوباما حول ‘حتمية سقوط نظام بشار الاسد’ من دون تحديد اي مواقيت. في
موازاة فيلتمان، حرص ليبرمان على ابداء قلقه مما يجري في سوريا وخشيته من
امتداد الصراع الى لبنان، ممتعضاً من عدم تقديم ما يكفي لدعم المعارضة
السورية.
الحديث عن سوريا جرّ حلفاء فيلتمان الى التساؤل عن مستقبل لبنان إزاء
احتمالين : سقوط النظام في سوريا او صموده. مبعوث واشنطن نصح حلفاءه بأن
ينظروا الى مستقبل لبنان في اطار تطورات المنطقة وليس بمعزل عنها. هذا
يستدعي، في رأيه، ثلاثة مهام:
اولاها، وجوب الإستعداد لكسب الإنتخابات النيابية المقبلة كي لا يسقط
البلد في ايدي حزب الله وجماعة ميشال عون. لكسب الإنتخابات، يقتضي تعميق
التحالفات القائمة بين قوى 14 آذار، والإتفاق على قانون للإنتخابات يؤمّن
فوزها ومصالحها، وإجراء الإنتخابات في موعدها.
ثانيتها، الإبقاء على حكومة نجيب ميقاتي واحتواء رئيسها لضمان الإستقرار والوفاء بإستحقاق الإنتخابات.
ثالثتها، التحضير لإبدال حكومة ميقاتي بأخرى تكنوقراطية برئاسته،
يُستبعد منها حزب الله والعونيون وذلك في حال إقدام قوى 8 آذار على تعطيل
الإنتخابات بسبب رفضها قانون الإنتخابات للعام 1960، أو حصول تطورات خطيرة
في سوريا لا تلائم قوى 8 آذار ومستقبل ‘سيطرتها’ على لبنان.
جدل طويل دار بين فيلتمان وحلفائه في المعارضة حول الإحتمالات التي يمكن
ان تحدث خلال الفترة التي تفصل البلاد والقوى المتصارعة عن موعد
الإنتخابات صيفَ العام 2013. ثمة فريق في قوى 14 آذار دعا الى تثبيت قانون
العام 1960 وبالتالي التبكير في اسقاط الحكومة، بالتعاون مع كتلة وليد
جنبلاط، للإتيان بحكومة جديدة برئاسة ميقاتي او سواه تكون في غالبيتها من
التكنوقراط ولا يُمَثّل فيها حزب الله والعونيون.
فريق آخر في قوى 14 آذار دعا الى إستغلال فرصة إنشغال دمشق بأزمتها
الداخلية من اجل إستنفار جميع القوى المعادية لسوريا وايران وحزب الله في
حملة واسعة شعارها ‘لا للإنتخابات في ظل السلاح’ حتى لو تطلّب الامر عدم
اجراء الإنتخابات في موعدها املاً في استدعاء تدخلٍ من دول عربية واقليمية
صديقة لعقد ‘مؤتمر دوحة جديد’ على غرار المـــؤتمر الذي انعقد في
الدوحــــة العام 2008 للتوافق على ترتيبات لوضع سلاح المقاومة تحت سلطة
الجيش لبناني قبل إجراء الانتخابات صيفَ العام 2013.
غير ان قلةً قليلة من العقلاء في قوى 14 آذار، ممن لا يخدعهم الضجيج
الإعلامي الذي يصنعه اعداء سوريا في الداخل والخارج، تضع في الحسبان أرجحية
صمود بشار الاسد ونظامه الجاري تصحيحه، وتعتقد ان المصالح الوطنية العليا
تستوجب التلاقي مع دعاة الإصلاح والديمقراطية في قوى 8 آذار، كما مع القوى
الوطنية والديمقراطية المستقلة، برعاية الرئيس ميشال سليمان والبطريرك
بشارة الراعي من اجل التوافق على قانون ديمقراطي للإنتخابات على اساس
التمثيل النسبي، يُنتج مجلساً نيابياً يكون، بقاعدته التمثيلية الواسعة،
بمثابة جمعية تأسيسية تضع التشريعات والاجراءات اللازمة لتنفيذ ما تبقّى من
اصلاحات ‘اتفاق الطائف’، ولاسيما المادة 22 من الدستور التي تنصّ على
إيجاد مجلسين: الاول نيابي منتخب على اساس وطني لاطائفي، والثاني للشيوخ
لتمثيل العائلات الروحية (الطوائف) وتنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية
والاساسية.
بين ما تريده امريكا وما لا تريده للبنان، وبين ما يريده اللبنانيون
الوطنيون العقلاء لبلادهم وشعبهم، مسافة زمنية طويلة، يتخذ خلالها اللاعبون
الكبار والصغار لبنان، كما دول المنطقة، ساحةً لصراعٍ محلي واقليمي ودولي
محموم ومفتوح على شتى الإحتمالات.