منتديات جلول لبنان Forums Jalloul Lebanon
عندما نكون كتلة مشاعر واحاسيس
عندما يغمرنا الحب والوفاء
عندها فقط نقول لك
.•°اهلاً بك قلماً مميزاً وقلبا ً حاضراً °•.
.•° هنا حيث القلوب تشابهت طيبة ٍ °•.
.•° وتلونت فرحاً وأملا ً °•.
.•° تزينت سماءنا بلالئي الأنجم اللامعه
وتوشحت بوشاح الفرح والسرور
وهلت بشائر طيور المحبه ترفرف نشوة بقدومك
وتعانقت حروف القوافي ترحيب بعطرك °•.
.•° بكل المحبه والموده نحييك لتشريفك لنا
ونرحب بك اجمل ترحيب ممزوج بعبارات الود والاخوه
موشح بالفل والكادي والرياحين°•.
.•° نتمنى لك إقامة رائعه وممتعه مع اخوانك و اخواتك
وفي شوق لعذوبة غدير حروفك لنرتوي منه
ورسم أناملك لنتمتع بابداعك وجماله °•.
.•°ارق تحية معطره بروح الورد لك°
منتديات جلول لبنان Forums Jalloul Lebanon
عندما نكون كتلة مشاعر واحاسيس
عندما يغمرنا الحب والوفاء
عندها فقط نقول لك
.•°اهلاً بك قلماً مميزاً وقلبا ً حاضراً °•.
.•° هنا حيث القلوب تشابهت طيبة ٍ °•.
.•° وتلونت فرحاً وأملا ً °•.
.•° تزينت سماءنا بلالئي الأنجم اللامعه
وتوشحت بوشاح الفرح والسرور
وهلت بشائر طيور المحبه ترفرف نشوة بقدومك
وتعانقت حروف القوافي ترحيب بعطرك °•.
.•° بكل المحبه والموده نحييك لتشريفك لنا
ونرحب بك اجمل ترحيب ممزوج بعبارات الود والاخوه
موشح بالفل والكادي والرياحين°•.
.•° نتمنى لك إقامة رائعه وممتعه مع اخوانك و اخواتك
وفي شوق لعذوبة غدير حروفك لنرتوي منه
ورسم أناملك لنتمتع بابداعك وجماله °•.
.•°ارق تحية معطره بروح الورد لك°
منتديات جلول لبنان Forums Jalloul Lebanon
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات جلول لبنان Forums Jalloul Lebanon

منتدى لبناني مصري المغرب العربي الخليج العربي عالمي
 
الصفحة الرئيسيةالرئيسيةأحدث الصورJalloul Lebanon Gamesالتسجيلدخولاتصل بنا
ثورة لبنان: يا أيها الكبار أسأل من نصبكن في موضع القرار أي قوانين لكي تحسنوا النظام وتحفظوا السلام وانتم الظلم الذي يكسر النظام وينسف الظلام أصرخ للكبار ... للكبار من يمسكون اليوم بالقرار لا تسرقوا الألوان من أمالنا لا تخطفوا الأحلام من أطفالنا غدا تدور دولة القرار ومن وراء دولة القرار لن تستطيعوا عندنا ان تحبسو الينبوع سوف تطلع المياه من فم الصخور وتخلع الحرية النير عن النسور رجالنا بطولة الملاحم نسائنا خصوبة المواسم أطفالنا مستقبل النسائم حدودنا شعاعة المدى وصوتنا مساحة لصدى وحلمنا يعانق المدى فلترفعوا الحصار يا اولياء القهر والقرار يا أيها الكبار....! يا شعب لبنان قاوم فيداك الأعصار لا تخضع فالذل دمار وتمسك بالحق فأن الحق سلاحك مهما جاروا قاوم فيداك الأعصار وتقدم فالنصر قرار أن حياتك وقفة عز تتغير فيها الأقدار يوم تهب ثورة الغضب في أمة الغضب في وقفة العز في انتفاضة الكرامة تندحر الظلامة عندها لن تستطيعوا وقف ما في النهر من هدير سوف يكون السيل لن تستطيعوا رد هذا الويل سوف يكون السيل عليكم سيجرف الحدود من حدودكم ويكسر القرار يا اولياء القهر والقرار يا أيها الكبار...! يا شعب لبنان قاوم فيداك الأعصار لا تخضع فالذل دمار وتمسك بالحق فأن الحق سلاحك مهما جاروا قاوم فيداك الأعصار وتقدم فالنصر قرار أن حياتك وقفة عز تتغير فيها الأقدار
هوِّر يابو الهوَّارة .. بلادي ارض الحضارة يلي ما بيعرفها منيح يرافقني ليها زيارة

 

 الهامشيون

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
جلول لبنان



جلول لبنان


ذكر
الحمل
نقاط نقاط : 109118
عدد المساهمات عدد المساهمات : 2446
السٌّمعَة السٌّمعَة : 8
تاريخ التسجيل تاريخ التسجيل : 26/10/2010
العمر العمر : 34
الاقامة الاقامة : منتديات جلول لبنان
تعليق تعليق : Ilove Lebanon

بطاقة الشخصية
بطاقة الشخصية بطاقة الشخصية :
الهامشيون  Left_bar_bleue0/0الهامشيون  Empty_bar_bleue  (0/0)

الهامشيون  Empty
مُساهمةموضوع: الهامشيون    الهامشيون  Prefer1218.03.12 19:01

د. أفنان القاسم



كانت أفكاري تضعني على هامش العالم.
فرانسوا مورياك

كل جهد للسيطرة على شرطهم ينقلب إلى محاولة للتدمير الذاتي.
كلود سيمون


الجزائر 1962
عدة أيام قبل الاستقلال
آدم، يعني عدم بالعربية،
كاتب في الخمسين من عمره، لا يحب الكُسْكُسَ ولا القهوة. لهذا السبب بقي
عازبًا. وبالمقابل، يعشق الورد. كرس حياته لزراعة الكلمات والورد وانتقادات
قرائه. ليس كل قرائه. فقط من يشعرون بأنفسهم أنهم المعنيون في كتاباته.
و... لأنه صريح مع نفسه، لا يستطيع إخفاء ما يفكر فيه عن الآخرين. هذا هو
عيبه: الصراحة. ومن الغالب ما تستقبل أفكاره الجديدة بسوء، كمواقفه
الشجاعة. وكما يقال: الكتاب يبدعون في الهموم لأنفسهم. لكن، أن تكتب جيدًا
أم سيئًا في عالم يحكمه النزاع، هذا لا يعني شيئًا، ما يهم هو التقدير، ولا
موهبة آدم، ولا شجاعته مقدّرتان. ومع ذلك، يواصل، رابط الجأش، على الطريق
ذاتها. على الأقل حتى يتوقفون عن نشر كتبه، وقبول مقالاته. من هنا إلى
هناك، لن يرخي قبضته. سيفعل كل شيء من أجل أن تصل آراؤه إلى المرسل إليهم.
لا يستطيع قبول الموت فكريًا طالما لم تنكسر ريشته. ونظرًا للأحداث
التراجيدية التي تهز البلد، لن يتأخر هذا اليوم عن القدوم. لهذا السبب قال
كل ما لديه قويًا وعاليًا عن ضربات جبهة التحرير العمياء وجرائم الجيش
الفرنسي، فعاد عليه ذلك بعداء الطرفين.
صاح المحقق الفرنسي:
- قضيت على نفسك بنفسك، يا سيد آدم! تصرفك بهذا الشكل يجعلك تحكم على نفسك بعدم الكتابة.
صاح آدم بدوره:
- لا أحد في العالم سيمنعني من التعبير عن رأيي بحرية، يا حضرة الضابط!
- لكنك تنسى أن هذه فرنسا!
- لا أنسى أنكم جيش كولونيالي.
- كولونياليون نحن الذين جئناكم بالحضارة!
- الحضارة التي تقتل، تحرق، تعذب، ليست حضارة، إنها البربرية مخبأة تحت ثياب نظيفة.
- برابرة نحن الذين علمناكم قراءة وكتابة أسمائكم!
-
ربما كنا أميين، لكننا أولاً وقبل كل شيء بشر، وواقع أن نقرأ ونكتب، وليس
فقط أن نقرأ ونكتب أسماءنا، حق جوهري لنا. زد على ذلك، أنت تحرمني من هذا
الحق عندما يكون المقصود أن أقول الحقيقة للعالم أجمع.
- أية حقيقة؟ حقيقتكم أم حقيقتنا؟
- الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان. لهذا أرفض كل فعل لا إنساني، سواء اقترفه ناسيّ أم ناسك.
- أنت تنسى أمرًا ثانويًا، يا سيد آدم.
- ما هو، يا حضرة الضابط؟
- أنها الحرب.
- حرب قذرة، تريد القول.
- وليست السلطة بيدكم.
- العجلة تدور، وفي يوم ما، سنمتلك السلطة.
- لماذا؟ لترتكبوا جرائم أخرى؟
- جرائم أخرى ربما، ولكن تبقى ما بيننا، يا حضرة الضابط.
- أنت من يقول هذا!
- أنا من يقول هذا، وأضيف أنني سأواصل قول الحقيقة عاليًا وقويًا، لتتوقف الجرائم، وليكون عصر الحرية بالفعل عصرنا.
- عصر الحرية خديعة! سنكون حريتكم دومًا. إذن اذعن، يا سيد آدم، ولا تكتب أي شيء كان.

صاح رئيس الفلاقة:
- لا حق لك في نقدنا، يا سي آدم، في نقد أفعالنا والثورة. هذا ما لا يمكن قبوله.
أجاب آدم:
-
في حركة ديمقراطية، يا سي لحسين، ما لا يمكن قبوله هو بالأحرى السكوت
عندما يتعلق الأمر بمصلحتنا كلنا، والضربات العمياء لا تأتي لنا إلا
بالتعاسات، تُعرّض للشبهات مصداقية قضيتنا.
- المصداقية لا تهمنا، ما يهم هو أن تحرز الثورة تفوقًا، وأن يشخ الفرنسيون فزعًا ليهربوا من الجزائر.
- هذه الأفعال الإرهابية المرتكبة ضد أبرياء تعاكس كل مبادئي.
- ولكن لا أبرياء هناك، كلهم يتشابهون، كلهم هنا ليبقوا، ليقضوا علينا.
- عدونا هو الجيش، زد على ذلك أنني عبرت عن رأيي بصراحة قاسية منددًا بما ارتكب من فظاعات.
- هؤلاء العسكر المتوحشون يستحقون الشنق، وانتقادنا في الوقت الذي تنتقدهم فيه، هو أن تضعنا على نفس مقعد الاتهام.
- أنا لا أتهم أحدًا. أنا لا أفعل سوى الإنذار.
- أنا أيضًا أنذرك، يا سي آدم، نحن أم هم، عليك أن تختار.
- هل تهددني، يا سي لحسين، أنا الوفي الأكثر من بين أوفيائكم!
- عندما تضع الثورة في خطر، لن نعتبرك منا. وفاؤك يساوي صفرًا.

مارغو، تعني هامشية باللاتينية، نادلة في بار الحي. إنها يهودية
إسبانية، عمرها ثلاثون عامًا. على عكس مواطنيها الأندلسيين، بشرتها فاتحة،
وشعرها ذهبي. من النادر إلا يبدي زبون تأثره بجمالها: الشباب والأقل
شبابًا، كانت تجذبهم كلهم. لكنها حتى الوقت الحاضر، لم تجد بينهم الرجل
الذي يلزمها. لتزويجها، فكرت أمها في إرجاعها إلى بلدهم دون عودة، لأن
الجزائر لها لم تكن سوى بلد الهجرة، الإقامة المؤقتة، لا أكثر. كانت تريد
أن تتحاشى الزواج المتأخر لابنتها، والزوج "العربي"، حتى وإن كان غنيًا. لا
تفرق مارغو بين الأطباق والشعوب، وتتفاهم جيدًا مع الجميع، تحب البايلا
بقدر الكُسْكُس والستيك فريت. أما فتى الأحلام، أن يكون جزائريًا أم
فرنسيًا أم من أي جنسية أخرى عندما يجدها، فستقول له نعم، دون تردد. زد على
ذلك، مارغو مؤيدة للحكم الذاتي للجزائريين. رأي خبأته عن الجميع كما يجب
حتى الوقت الحاضر، حتى عن أمها. لا تستطيع قول ما تفكر فيه عندما يتكلم
الجميع عن القنابل الموضوعة في المقاهي، عندما تكون الضحايا من النساء
والأطفال. المظليون يرتكبون الأفعال الأكثر شناعة ضد نساء وأطفال أهل
البلد، ولكنهن نساء أهل البلد وأطفالهن! هذا يعني في العقلية السائدة ما
يعني. ومع ذلك، ليست هذه الناحية هي التي تُرى من مارغو، مارغو التي كانت
أمها ترى فيها فتاة وحدها في كل شيء: في طريقة ملبسها، ومأكلها، وعملها،
واختلاطها بالفتيان، مارغو فتاة ليست كالأخريات. كانت مارغو تعتبر الأمر
مديحًا، حتى اليوم الذي جرؤت فيه على إبداء رأيها حول الصراع الدائر.

صاح صاحب البار:
- يا آنسة مارغو، لم نعد بحاجة إلى خدماتك.
- لماذا، يا سيد ريمون؟
- تعرفين جيدًا ما فعلت.
- هل سرقت؟
- لا.
- هل سكرت؟
- لا.
- هل تخلفت عن عملي يومًا واحدًا؟
- لا.
- إذن لماذا؟
- لأنك ارتكبت جنحة في الرأي.
- تطردني لأنني أقول ما أفكر فيه، لأن لي رأيًا مخالفًا لرأيك؟
- تريدين القول مخالفًا لرأينا كلنا، نحن الذين كنا نظنك متعاضدة معنا.
- أنا متعاضدة معكم دومًا، حتى ولو كان لي رأي مخالف لرأي أغلبيتكم.
- بدعم الفلاقة؟ قتلة الأطفال هؤلاء!
- أنا لا أدعم الفلاقة. أنا ضد الضربات العمياء. لكني مع حق الجزائريين في تقرير مصيرهم.
- ما معنى هذا، لكنك مع حق الجزائريين في تقرير مصيرهم؟ طردنا من بلدنا؟ نحن على أي حال هنا في بلدنا.
يقلدها ساحرًا:
-
لكني مع حق أهالي البلد الأصليين الخراء في تقرير مصيرهم! لا، يا آنسة
مارغو. هذا لا يمشي! أفكارك خطيرة! أنت خطيرة! بسببك سأخسر كل زبائني. أفضل
فقدانك على فقدان لقمة عيشي.
- لكن، يا سيد ريمون...
- ليس هناك من لكن، لا مكان لك عندي.

صاحت الأم بمارغو:
- أنت عار الأسرة، عاري، عار المرحوم أبيك!
- أنا لا يد لي في الأمر، يا أمي. السيد ريمون هو من قرر كل شيء!
- والخطأ خطأ من؟ خطأ الآنسة مارغو، الثورية! لم أكن أعلم أن لي ابنةً جبهة تحرير!
- لست جبهة تحرير، يا أمي. أنا من أنا ولكن لست جبهة تحرير!
- دومًا ما كنت فتاة وحدك، يا مارغو! فتاة خارجة على العادي، مع الأسف!
- هذا لأنني أفكر قليلاً تقولين هذا، لأنني لا أفكر مثلكم، لأنني استطعت قول رأيي في مسألة تلسع أرواحنا؟
- تنسين أننا لسنا من هنا، نحن من...
- أنت ولدت هنا، أنا ولدت هنا، هذا بلدنا، بالطريقة نفسها التي للآخرين.
-
ليست هناك طريقة نفسها بين إسباني، وفوق هذا سفاراد، وفرنسي، نحن
المغتربين، وسنظل، إلى الأبد. نحن لا يخصنا ما يجري. ربما تريدين أن يحطم
المظليون بابنا؟ أنت فقدت عملك، وأنا مهددة بفقدان عملي. وبعد ذلك، كيف
سنعيش، هل يمكنك أن تقولي لي؟ رأيت جرحى، الكثير من الجرحى، في المستشفى
الذي أعمل في تنظيفه، وأجرؤ على الادعاء أنهم كلهم فرنسيون، أنهم كلهم
ضحايا أصدقائك واضعي القنابل. لا يوجد أي عربي، أي واحد من السكان
الأصليين.
- لأنهم قُضي عليهم كلهم بمن فيهم الجرحى، وأُلقي بهم في قبر جماعي.
- تقولين أي شيء، يا مارغو.
- لا، يا أمي، أنها الحقيقة الخالصة.
- تقولين أي شيء، لا تحكين إلا السفائف.
- سفائف، الدم الجزائري!
- أنصحك ألا تعودي إلى الكلام في هذا لأحد، ولنخنق الأمر، من الأفضل أن تختفي لبعض الوقت.
- من الأفضل أن...
- ستقيمين لبعض الوقت عند عمتك سارة. ستعينينها في عملها، وتكسبين مصروفك بالانتظار.
- بانتظار ماذا؟
- بانتظار أن يتوقف كل شيء.
- لن يتوقف كل هذا إذا ما لم تكن للجزائريين الحقوق نفسها التي لنا جميعًا.
- ماذا تقولين، يا مارغو؟!
- إضافة إلى ذلك، حتى بيننا، نحن الأوروبيين، هناك حقوق وحقوق.
- لقد أصبحت مجنونة!
- أنظري ما نعانيه، نحن الإسبانيين... اليهود. هذا لا يمكنه الاستمرار!

في البداية، غضب آدم لاستبعاده: لم تعد كتبه تنشر، والمنشورة صادرتها
القيادة العسكرية. لم تعد مقالاته تنشر، وعزله الفلاقة تمامًا. منعوه من أي
اتصال. ورويدًا رويدًا، بتحضيره أطروحة عن أعمال كامو، استسلم لعزلة
طوعية. وليصمد، زرع وردًا في حديقته الصغيرة، وباعه في ساحة السوق. ورد
أحمر، وورد أبيض، وورد أصفر، وورد شاي، وورد أضاليا. ومع ذلك، لم يكن آدم
يرى الحياة وردية. كان استقلال بلده يقترب يومًا عن يوم، لكنه أبدى تشاؤمه.
كان يقول إن التراجيديا الجارية ستستمر. كان يقول ذلك من قبل، إلا أنه كان
يتمنى بفضل ريشته، بفضل كل الريشات الحرة، تقويم الأشياء، وإقامة عالم
عادل وديمقراطي. الآن وريشته حُجّمت، انهار كل أمل، لم تعد الحرية سوى
خديعة. لم تبق له سوى العزلة أو الموت. كان يتكلم قليلاً، ويقرأ كثيرًا. لم
يكن أصدقاء له سوى هذه الكائنات الرخصة العود، المعطرة، ذات الجمال
الزائل: الورود. كانت جوهر عزلته.
نظر مواطنوه إلى هذه العزلة بعين ليست
راضية، إذ أنهم فسروها كموقف ضد الثورة، وبالتالي عومل آدم أسوأ معاملة،
وأهين، حتى أنه ازدُري.

ذهبت مارغو عند عمتها سارة للإقامةِ بعضَ الوقت، كما نصحتها أمها. كان
من اللازم أن تختفي قليلاً، خاصة وأنها لم تفقد عملها فقط بل وتقدير
الجاليتين الإسبانية والفرنسية أيضًا. لأول مرة في تاريخ هذا البلد تتحد
الجاليتان حول مسألة تفرقهما مع ذلك منذ الاحتلال: حق الشعوب في تقرير
المصير. استقبلت العمة سارة مارغو على الرحب والسعة، واقترحت عليها بيع
أوراق اليانصيب معها. كانت بائعات الصدفة قليلات في الحالة الراهنة. لم يعد
الناس يؤمنون بالحظ عندما ينظرون إلى البحر، ويفكرون أنهم سيُدفعون إلى
قطعه دون الرجوع أبدًا. كانت سارة تظل في كشكها شارع ميشليه، ومارغو تحرث
الشوارع داعية، في الموت والأسى، إلى شراء ورقة يمكن أن تكون حظ حياة
بأكملها. كان الناس ممن يقبلون اللعب قليلين. وكالعادة، كان بالأحرى جمال
مارغو الجاذب لمشتري الصدفة. جمال لم تكن للصدفة فيه يد على الإطلاق. في
الماضي، كان أبراهام، زوج سارة، أول سجين لجمال مارغو. عندما كان لها من
العمر خمسة عشر عامًا، اغتصبها أبراهام. احتفظت بالسر، فمضت الأيام، وزالت
الآثار. تبدل الرجل، وغدا للدين مشايعًا، وللتقوى أكثر قربًا، ولمارغو أكثر
حنوًا. كان عليه أن يواجه العار الآخر، عار كل يوم، عندما يعامله فرنسي
الأصل كما لو لم يكن شيئًا لأنه يهودي، وعندما يحتقره للسبب نفسه مضطَّهد
آخر، عربي من الأهالي الأصليين أو قبائلي، ويبصق عند عبوره: "يهودي حاشاك!"
كانت تلك مأساته الحقيقية، صراعه لأجل احترام إنسانيته. لكنه وهو يرى
الجميلة مارغو كما لو كان يكتشفها للمرة الأولى، استيقظت رغبته، وغدت إرادة
امتلاكها لديه أقوى من كل إرادة أخرى وجودية. فاجأها أبراهام، عند غياب
زوجته، وهي في الحمام، وارتمى عليها كوحش ضال. لم تستطع مارغو شيئًا أمام
العملاق الذي كانه أبراهام، ولم تفعل مقاومتها في أبراهام سوى إثارته أكثر:
اغتصبها للمرة الثانية، لكنها لم تعد الفتاة الصغيرة. جمع حوائجه، وغادر
بيت العمة نهائيًا.

وجدت مارغو غرفة صغيرة مقابل بيت آدم. من النافذة، كانت تراه يقرأ،
ويكتب، ويعتني بحديقته، وكان آدم يلتقيها في السوق أو في الشارع دون أن
تثير لديه أقل انتباه. لا جمال هناك غير جمال ورده! واصلت مارغو حرث شوارع
الجزائر لبيع أوراق اليانصيب، والحظ الذي كانت تعده للآخرين لا يأتي للطرق
على بابها. كانت تعيش حياة قاسية، وتنظر عن كثب وأحيانًا بدافع الإعجاب إلى
ذلك الرجل الذي يقرأ ويكتب ويزرع الورد. وكان ذلك يقف عند ذلك الحد. كان
الألم النفسي الذي سببه زوج عمتها لها يتسلط دومًا على روحها، ويجعلها سهلة
الكسر أكثر، لم يكن لها حظ تلك الورود التي وجدت في ذلك الرجل الغريب
حاميًا وصديقًا.
في أحد الأيام، انفجرت قنبلة حِرَفية في بار قرب بيت
آدم. ولما كان يمر من هناك، أوقفه المظليون، واتهم بجريمة لم يرتكبها، بفعل
حاربه منذ انطلاقة الثورة، إلا أن جيرانه العرب قد بدلوا موقفهم منه.
اعتُبر آدم كبطل، وأسر الفلاقة مارغو بالصدفة، لإبدالها بآدم. بكتها أمها،
وكل الآخرين أرادوا تحريرها بأي ثمن. غدت رمز مقاومة الاقتلاع بالقوة،
وأقسم الكل حولها على عدم ترك الجزائر.

تم الإبدال، ومع ذلك لم يبدل آدم موقفه، وكذلك مارغو. ولخيبة أمل
الفرنسيين والإسبان، طردوا أم مارغو من حيهم، رغم أنها شجبت ابنتها جهارًا
وعلانية. وحّد آدم ومارغو العزم في الضيق والألم عندما عزلهما العدوّان،
الجزائري والفرنسي، في عمارة يحتل كل منهما قسمًا منها، فوجد آدم نفسه
ومارغو حبيسين في حجرتين إحداهما إلى جانب الأخرى. ومن شقوق في الجدار،
كانا يسمعان ما يلحق بالواحد والآخر من تعذيب.
في الليل، وهما وحدهما، كانا يحاولان التواصل بينهما. كان آدم يصرخ ألمه، ومارغو تسر إليه روحها الممزقة.
ازداد
التعذيب عنفًا: كل يوم كان آدم يُضرب ومارغو تُغتصب. في إحدى الليالي،
بينما كان آدم يفقد وعيه، أيقظته ضربات لمخالب على الجدار، فراح يضرب
بمخالبه، هو أيضًا. ضَرِيَ كلاهما، ثم، دفعا بكل ما تبقى لديهما من قوة،
فانفتح الجدار.
عرفت مارغو المعذَّب، وحدثته عن أوراق اليانصيب. قالت له
إعجابها الرصين بالرجل الغريب الذي يزرع الورد، وقالت لنفسها إن لقاءها
بآدم جزء من لعبة الصدفة.
حكى لها آدم عن ورده، عن ماضيه الذي لا فائدة
منه، وأسف لأنه لم يلاحظها أبدًا، كل ما عاناه حتى الوقت الحاضر هيأه من
أجل هذا اللقاء.
تمكنت مارغو من الانزلاق، وجاءت تبكي بين ذراعي آدم.
حكت له كيف اغتُصبت في عامها الخامس عشر من ذاك الجلاد أبراهام، وكيف
اغتصبها المظليون مساء أمس. قالت إنها تتألم... منذ كانت صغيرة، وهي تتألم.
كانت بحاجة إلى قلب يفهمها، إلى جسد يدفئها، كانت بحاجة إلى حامٍ.
لأجلها،
لأجل حمايتها، قرر آدم ألا يترك نفسه للموت، أن يحيا برغم جراحه. أرادت
مارغو أن تهزم ألمها من أجله، أن تنذر نفسها لحاميها. وهكذا، للصمود في وجه
جلاديهما، قاما بالحب، واغتذيا بالدم، دمهما. لكن في الوضع الذي كانا فيه،
وبعيدًا عن كل سلوك رومنطيقي، كان ذلك لهما كمن ينتحران!
في الصباح، وقع جلادوهما عليهما ميتين.

وجد المظليون أنفسهم والفلاقة وجهًا لوجه في فضاء مفتوح، في لحظة حاسمة
من تاريخهم: أهلكوا بالتبادل أنفسهم، وأُعلن الاستقلال في حمام من الدم.



* من الأعشاش المهدومة المجموعة القصصية الأولى لأفنان القاسم 1972 بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.


ـــــــــــــــــــــــ

ساعة الصفر

قصة أفنان القاسم

يبدو لي لأن يكون المرء ذكيًا، من الجوهري أن يكون حذرًا، حتى من نفسه.
بول ليوتو

الحذر أبو اليقين.
جان دو لا فونتين


بعد منتصف الليل بقليل، وأضواء المصابيح الخافتة تتسلل بكلل من
أردية الحلكة، كنت أرود أزقة القدس القديمة، وكان احتكاك أجنحة فراش الليل
يصل إلى أذني بوضوح. وأنا أرفع رأسي، لاحظت غيومًا قاتمة تزحف، وتنتشر
بثقل. غدا الليل أكثر فأكثر سمكًا، وكان ذلك غريبًا في ليلة من ليالي
الصيف. أطرقت بصري، فرأيت حذائي ملوثًا بالطين. تعجبت! لم أصل إلى معرفة
متى حصل هذا. قلت لنفسي إنني عبرت على التأكيد طريقًا لا يسلكها الكثير دون
أن أدري. حاولت التذكر، ولكن بلا جدوى. انحنيت، وبأصابعي أخذت أمسح حذائي:
رأسه، طرفه، نعله. حُفر، بلاط، حطام، خطوات غير متناسقة، انزلاقات، تعثرات
ربما: عشت كل هذا دون أن أعرف كيف. لا بد أن الأمر كان مثيرًا!
انتصبت،
وأنا أزفر طويلاً. فركت أصابعي، وتركت كتفًا أعلى من الآخر، وأنا أفكر أن
هذا ليس موقف شخص يحذر حتى من نفسه. بقيت هكذا مدة دقيقة، دون حركة، وأنا
أقول لنفسي إنني كنت في حالة من شرود الذهن، وإن ذلك كان أقوى مني. دفعتني
نسمة باردة إلى التحرك من جديد. أول ما فعلت خفضت كتفي، وأنا أسحب نفسًا
عميقًا. وقبل أن أعود إلى السير، ألقيت نظرة على حذائي، فدفع حذائي في وجهي
لسانه.
لماذا كنت في الخارج ليلاً، ما بعد منتصف الليل، وفي تلك الليلة
على التحديد؟ هل كنت أسير فقط لمتعة السير أم لأنني كنت مجبرًا على ذلك؟
الحقيقة
أنني بعد زيارة طالت لصديق، وأنا أريد العودة إلى منزلي الكائن في القدس
الجديدة، وجدت باب العامود مقفلاً. كان إشعار من رئيس البلدية يحدد: يقفل
باب العامود على الساعة العاشرة كل مساء، ولن يفتح إلا عند صلاة الفجر،
وهذا اعتبارًا من أول حزيران. تحذير للعامة. حرر في 1967.05.25.
أمضيت
مدة طويلة، وأنا أتأمل إعجابًا إمضاء رئيس البلدية المهيب، الذي يصعب
تقليده، وأنا أفكر أن الحذر لا يستثني دومًا عدم التبصر، وأن باستطاعتي
تعريض نفسي للعديد من الأخطار. بعد ذلك، أدرت ظهري للإشعار، وعدت إلى
السير. خطر على بالي أن أعبر من باب آخر يكون مفتوحًا، أو أرجع عند صديقي
قائلاً: أقفلوا باب العامود، وسرعان ما سيفهمني. كان بإمكاني النزول في أول
فندق لا تنطفئ لافتته طوال الليل، لكن لم تكن رغبتي في السير ليلاً وحدها
التي جاءت بي هنا، إذ أنني أبلغ من العمر ما يجعلني قادرًا على قمع أية
رغبة. كان مجرد التفكير في أنني أسير بعد منتصف الليل، في أزقة القدس
القديمة، بعد منتصف تلك الليلة على الخصوص، يكفي لمحو كل علامة تعجب أو
استفهام يثيرها ذلك الوضع حولي.

قال لي صديقي، وهو يهز رأسه بعصبية، وهو ينحني قليلاً نحوي:
- غدًا، أقول لك غدًا، من البداهة أن يهجموا غدًا، أؤكد لك.
لم
يقل سنهجم. كان محررو الخراء أولئك قد عودوهم على الكلام عنهم بضمير
الغائب كما لو كانوا يتكلمون عن غرباء. كنا غرباء لأنفسنا. حربنا كانت شغل
الآخرين. قوتنا كانت في موضع آخر. لهذا كانت حربًا خاسرة سلفًا.
أعاد بشعور القوي، القوي جدًا، هو الضعيف الذي كان:
- أقول لك غدًا، يا رب السماء، سيهجمون غدًا.
وأنا،
ماذا كان موقفي؟ كنت أنظر إليه بعين نصف مغلقة، وأشد على يده، الممدودة
على الطاولة القصيرة التي كانت تفصل بيننا، يد نصف متينة. لم تكن لدي رغبة
في النوم، على العكس، كانت الأحداث من الجسامة بحيث لا يمكن للعيون أن تغمض
كل مساء، هانئة مطمئنة. لم تكن لدي رغبة في إبداء قوتي، كانت كل قوانا لا
شيء مقابل قوة العدو. كنت الوحيد الذي يفكر أن الحرب سيكسبها "تساهل"
سلفًا. ربما لأنني لم أكن أسمع الراديو كثيرًا، أو لأنني كنت حذرًا، أرتاب،
وأخاف، ومن طبيعة وجلة، قليلاً ما أميل إلى الثقة بالناس أو المستقبل.
أضاف صديقي مع إحساس بالقوة تفلت منه.
- كنت أتوقع أن يهجموا اليوم، لكنهم لم يفعلوا. سيهجمون غدًا، أنا أحدس ذلك، أنا أحزر ذلك.
كانت تسحرني خصلاته السوداء، هي أيضًا كانت تهتز بعصبية كلما أخذته الحمية.
سألته:
- أتعرف فيم أرغب هذه اللحظة؟
أطلق صيحة حماسية كما لو أنه اصطاد سمكة كبيرة:
- أن يعطوك بندقية، أن يقودوك إلى الخطوط الأولى، وأن تطلق، تطلق.
ابتسمت لخصلاته المجنونة، لأنفه الدقيق. لم أكن أريد صدمه، لكني لم أكن أستطيع إخفاء ما يقعد على قلبي:
- كنت أعتبرك ذكيًا حتى الوقت الحاضر، لكنك تخيب أملي.
انتصب:
- ماذا؟
نفض رأسه. كان ذلك كافيًا لخصلاته السوداء كي تهتز، وتهز خيالي. تركته ينتظر قليلاً قبل أن أقول له:
- لك شعر جميل! يمدك بقوة كبيرة على الإغراء. يا له من حظ!
رد متوترًا:
- أنا لا أفهم.
تركته ينتظر من جديد. لاحظت خديه يحمران، صُدغيه ينتفخان.
- أنا لا أفهم. أوضح بسرعة وإلا لكمتك!
وأنا
أراه يرتعش أمامي كاللهب بين أصابع الريح، أشفقت عليه. لم أقل له إنني
أرغب في مداعبة خصلاته، إنني أفكر في أنني وقعت أسير جماله. لم أقل له إنني
أريد أن أحيطه بذراعيّ، وبينما هو يقاومني، أن أجز شعره كالجدي.
قلت:
-
سيهجمون اليوم أو غدًا أو بعد غد، لا يهم متى، لأنهم سيهجمون على التأكيد
هذه المرة. شخصيًا، أنا أفكر في النصر مثلك، لكني أفكر فيه على طريقتي. لدي
طريقتي الخاصة بي في التفكير، حتى في الانتصار.
- كيف؟ أنا لا أفهم.
- سأوضح لك.
ذهبت إلى النافذة، فتحتها، وانحنيت خارجها. كان هناك صبية مجردون من كل شيء، وهم يصيحون، ويهتفون للحرب.
قلت، وأنا أعود إلى مكاني:
- يُحَيّي الصبية الحرب.
قال صديقي:
-
يبدو أن الكل يهنئ نفسه بالحرب ما عداك! ليس من الحسن أن تكون حذرًا
مرتابًا إلى هذا الحد عندما يقطع مصير شعب بأكمله لحظة تاريخية كهذه.
- حاسمة، يجب القول لحظة حاسمة.
- إن شئت، لحظة حاسمة.
- دومًا ما كنت هكذا عندما يتعلق الأمر بحالة عصيبة. شيء أقوى مني.
- ستكون هذه الحرب حاسمة، وسنكسبها رغم كل تشاؤمك.
- أنت، ما يهمك، هو النصر، أليس كذلك؟
- نعم.
- ما ترغب فيه، هو هزيمة إسرائيل، أليس كذلك؟
- نعم.
- ما تأمله، هو استرجاع الفردوس الضائع، أليس كذلك؟
- نعم.
- وأنا أيضًا.
استشاط غضبًا:
- أنت تهذي! ما هذا الهذر؟ أوضح!
أحددت نظري إليه، ثم:
- أريد أن تخرّقني بالرصاص!
أعاد كلماتي، غير مصدق.
أضفت:
-
نعم للنصر. لكن هذه الحرب لن تأتنا إلا بالألم والبؤس. لن يكسب داوود
الصغير الذي هو نحن أبدًا ضد جالوت، العملاق العبري. لا، لست انهزاميًا،
أنا حذر مرتاب كما قلت، وقبل كل شيء أنا شخص يفكر.
- تسمي هذا "تفكير" أن تطلب مني إطلاق الرصاص عليك؟
-
في هذه اللحظة الحاسمة، أو إذا شئت التاريخية، ستنتحرون كلكم ما عداي.
لهذا أريد أن أكون أول من يموت، ولأثبت لك أنني لست خائفًا من الموت. أنا
أطلبه منك، لكني أعرف أنك لن تفعله، لأنك جبان.

في حارة النصارى، ذرعت زقاقًا طويلاً معتمًا عند نهايته قليل من الضوء.
وقفت تحت المصباح لأنظر إلى ساعتي. كان الوقت يمضي رتيبًا. بقيت هناك، وأنا
أنظر إليه، وهو يمضي، دون أن تخل نظرتي بنظام إيقاعه الأبدي. وماذا لو
تندلع الحرب الآن؟ كان السؤال ينتهي مع علامة الاستفهام، ومع ذلك كان
"الآن" يتجاوز، كما أرى، الزمن الحاضر، وكان هذا بالنسبة لي شيئًا غير
مألوف، نعم هذا ما كان، كان كل شيء يبدو لي غير عادي.
التفت حولي، وأنا
آمل في الوقوع على شيء استثنائي. ثم عدت إلى ساعتي، وأنا أحسها باردة حول
معصمي. لمنعي من الارتعاش، أقنعت نفسي بالتقدم. قطعت حشرة الفضاء الجامد
أمام عينيّ كالسهم، وملأ طنينها أذنيّ. قامت بنصف دورة، وعادت تقصفني. لمحت
وميض عينيها، وقدرت مدى عزمها. عندما قررت خوض الحرب ضد الحشرة الليلية،
وراود الحشرة الشعور بالهزيمة أمامي، اختارت الابتعاد، لتهيئ بشكل أفضل
هجومها الجديد، كما كنت أفترض. رأيتها تحلق بعيدًا عني، قرب المصباح. لوحت
بقبضتي مهددًا، لكنها تجاهلتني تمامًا.
خفضت رأسي، وتابعت طريقي. كان من
اللازم الذهاب إلى مكان ما. كان من اللازم الاختيار بين قضاء باقي الليل
في الأزقة الرطبة الضيقة واللجوء إلى مكان ما، مسجد أو كنيسة مثلاً. لكني
رفضت الذهاب إليهما. كان مجرد التفكير في قضاء جزء من الليل ممددًا على
بساط مهترئ أو جالسًا على مقعد منكسر يجعلني أتمرد على تنفيذ ذلك.
وأنا
أخرج من الزقاق، لاح لي ضوء يومض غير بعيد. كان فندقًا. اتجهت صوبه، وأنا
أفكر أنني سأطرق الباب، وأن موظف الاستقبال سيكون نائمًا. سأقول له: عفوك!
لم أكن أعلم أنهم يقفلون باب العامود كل مساء على الساعة العاشرة. هذا يعني
أن الوضع خطير للغاية. كل شيء لا يسير سيرًا حسنًا. - على العكس، كل شيء
يسير سيرًا حسنًا، يا سيدي! والبرهان أنت، زبون يأتينا بعد منتصف الليل. -
لديكم حجرة على التأكيد. - سرير واحد؟ - نعم، سرير واحد. أنا وحدي. لا
ترعبني الوحدة. لهذا السبب لم أفكر بعد في الزواج. - أنت محظوظ، يا سيدي،
أما أنا فلا، وهو يعطيني المفتاح. يقول لي رقم الحجرة، ويشرح لي كيف الذهاب
إليها. عندما أجد نفسي بين الجدران الأربعة، لا أخلع ثيابي. أرمي بنفسي
على السرير في كامل ملابسي بدافع الحذر. لكن حرصًا على نظافة الفراش، من
اللائق أن أخلع حذائي الموحل. لن أنسى إقفال الباب بالمفتاح. لصوص القدس
يجولون ويصولون حتى عشية حرب كبيرة. سيمكنهم مراوغة تيقظ مسئول الاستقبال،
وعلى الخصوص عندما يغفو، وستكون لهم حرية التصرف. هذه الليلة، لن أنساها ما
حييت! وماذا أيضًا؟ آه! لن أنسى إقفال النوافذ.
لكن في اللحظة التي
وصلت فيها إلى منتصف الطريق إلى الفندق، انطفأت الأضواء فجأة. دوت صفارة
الإنذار، وجاءت خطوات مذعورة من كل مكان، محاصرة إياي. حركت يدي، ولكمت
أحدهم كان يمضي أمامي بسرعة هائلة. كان كل ذلك شؤمًا. أحسست بالضيق في كل
حركة من حركاتهم. دفعتني أجساد ضخمة، أجساد قاسية الملمس. ضربتني قبضات
خشنة، قبضات عنيفة سقطت عليّ.
- إلى الملجأ، أيها الأبله!
- إنها غارة! إلى الملجأ!
- ما هذا الخازوق الذي يعيق العبور!
- ادفعوه!
وإذا بضربة عنيفة أقصى عنف، سحقت بطني، وأسقطت جسدي، وحجر شديد أقصى شدة، شج رأسي، وأفقدني وعيي.

كان نعيق صفارة الإنذار يتصادى في أذنيّ، وكان أحدهم يبلل وجهي ليعيدني
إلى نفسي. لكن كلما عدت إلى نفسي، كلما تضاعف النفير. حاولت النهوض، أردت
الصراخ، إلا أن صوتي اختنق. ساعدتني امرأة شابة على الاستلقاء، بدفعة رقيقة
من يدها ضاغطة على صدري، وسوت الضماد على رأسي. عندما لاحظت أنني صرت أقرب
إلى السكينة والهدوء، قالت لي مفترة الثغر:
- لم تكن غارة، ولكن طائرة استطلاع، لا أكثر.
فتحت فمي، فانعقد لساني كالحبل.
تابعت:
- تريد أن أقول لك كيف ولماذا أنت هنا، أليس كذلك؟
الحقيقة، كيف ولماذا كنت هناك؟ ومن جديد، فتحت فمي، لكني لم أتوصل إلى نطق أقل كلمة.
قالت:
- ليس ما حصل على مثل هذه الغرابة. في الواقع، أردتُ الركض إلى ملجأ غير بعيد عن مسكني كالجميع، ووجدتك مغميًا عليك على عتبة بابي.
لم
أطمئن تمامًا. ضغطت عنقي، رأسي، جبهتي. حركت رأسي يمنة ويسرة، يسرة ويمنة،
بينما هي تجلس على حافة السرير تنظر إليّ، تنتظر أن يفرغ الطفل الذي كنته
مع كل تلك الفوضى من الحركات.
سألتني:
- كل شيء على ما يرام؟
لم أجبها لحذري الدائم.
نهضت،
وأعطتني ظهرها، فارعة القوام، هيفاء، في قميص النوم. لم تتأخر عن العودة
مع فنجان شاي في يدها. حركت الشاي، ثم وضعت الفنجان على طاولة صغيرة قربي.
أخذت مجلسًا على مقعد غير بعيد من ساعة حائط، عُلق فوقه شمعدان ولوحة لم
أستطع تبيان تفاصيلها. كان مصباح يتدلى من السقف، واطئ لدرجة به يصدم
العابر رأسه عند المرور أسفله. كان حذائي موضوعًا على الأرض، وثيابي على
السرير. لم يكن لحذري منها ما يبرره، أرسلت إليها نظرة مليئة بالشكر
والعرفان، فابتسمت، ومرة أخرى سألتني:
- أنت على ما يرام الآن؟
قلت، وأنا ألمس الضماد:
-
ما حصل لي أمر عادي. لم أكن أعرف ما أفعل، بقيت منزرعًا هناك، معترضًا
طريقهم. الإنذار شيء جاد دومًا، ومن الواجب اتباع التعليمات التي يقول بها.
وتفتحت الوردة البيضاء في فمها.
- هل أنت على ما يرام الآن؟
قلت:
- أنا على ما يرام، بفضلك. أشكرك!
سرها ذلك. هزت بهدوء قدميها الحافيتين المطلية أظافرهما بالأحمر القاني. نصحتني بشرب الشاي قبل أن يبرد.
بقي
أحدنا ينظر إلى الآخر طويلاً دون أن ينبس بكلمة. أربكني ذلك الوضع بعض
الشيء. لم يكن سبب ارتباكي الحذر وإنما الخجل. كنت أعتزم البدء بالحديث،
بتبادل بعض الكلمات مع مضيفتي، ثم لا، لم أكن أجرؤ. أردت أن أقول لها كلمة
لطيفة، شكرها مرة أخرى، لكني لا أقول شيئًا. كنت أستمع إلى دقات الساعة
فقط، وضربات قلبي. أما عن الوردة البيضاء في فمها، فلم تذبل، صفاء الليل
السابح في أعماق عينيها لم يتعكر.
وأنا أهم بتوجيه بعض المدائح إليها، سألتني:
- هل تعتقد أنهم سيهجمون؟
- من؟ نحن أم هم؟
- نحن. سنهجم نحن، سنبدأ الحرب نحن. هل تستطيع أن تتصور العكس؟
لم
أرغب في معارضتها. لم أشأ أن أقول لها هم الذين سيشنون الحرب، وأن البرهان
على ذلك طائرة الاستطلاع تلك التي ظهرت في السماء في النصف الثاني من
الليل. اكتفيت بقول:
- سيهجمون على أي حال.
- متى؟
- غدًا.
- في هذه الساعة، أنت تعني اليوم، خلال عدة ساعات، ربما هذه اللحظة.
- ربما.
- هل أنت مسرور؟
لم أرغب في صدمها. لم أشأ أن أقول لها إن هذا لا يبهجني. اكتفيت بإجابة:
- لستُ أدري.
- بالله عليك، لستَ تدري!
- لستُ أدري.
- لستَ تدري، تقول لستَ تدري!
ابتسمت، وأعدت مرتبكًا:
- لستُ أدري.
- هل تشك في قوتنا؟
ومرة أخرى، لم أشأ معارضتها ولا صدمها. أكدت بصوت خفيض:
- نحن أقوياء.
- إذن لماذا أنت لست مسرورًا؟ لأنهم كسروا لك رأسك؟
قلت مبتسمًا:
- ربما.
- لكنك تعرف جيدًا أن ذلك كان حادثًا. كانوا يتدافعون، وأنت كنت...
قاطعتها، وأنا آخذ رأسي بين يديّ، مرددًا بعياء:
- رأسي مثقل، مثقل...
تنهدت، وسكتت.
أغمضت
عينيّ، وفكرت في نهديها، في عنقها، في لحمها الوردي. سلخت في الحلم شفتيّ
لكثرة ما قبلت شفتيها، سلخت وجهي على فخذيها. عدة أمتار كانت تفصل ما
بيننا، وكان عليّ فقط أن أقطع هذه المسافة القصيرة، أن أحطم كل شيء في
طريقي. هذه هي حربي. عدت أفتح عينيّ، وسألتها:
- هل تسكنين وحدك في هذا البيت؟
ردت بعداوة مفاجئة:
- وماذا يهمك أن أكون وحدي أم لا؟
- أسأل فقط.
-
أنا أرمنية، من أصل أرمني إن كنت تفضل ذلك. ولدت هنا، في القدس. ثقافتي
المزدوجة لا تمنعني من الحلم بالعربية كل ليلة. مات والداي، منذ عدة سنوات.
أضافت محزنة:
- ربما كانا يطلان علينا الآن من الجنة.
قلت مبتسمًا:
- أتمنى ألا يسيئا الظن بنا.
مدت
ساقيها، ورمت رأسها على مسند المقعد. هذا الجسد الرخص هو وطني. كان على
بعد خطوتين مني، الشيء الوحيد الموجود بالنسبة لي. هذا الجسد الجليل
والمشتهى هو حقيقتي. إنه الحقيقة الوحيدة التي تربطني. كل شيء في الخارج
كذب في كذب: وطنيتهم وشجاعتهم، كل شيء زائف.
فكرت في أن هذه الأرمنية قد تكلمت منذ قليل عن "قوتنا" عندما سمعتها تضيف:
- أنا أعمل عند باتا.
ألقيت
نظرة على حذائي، وأنا أكرر القول: لقد تكلمت عن "قوتنا"، وها هي تسهر
الليل كله بانتظار مجد، "مجدنا". شعرت بالعار. شخص ولد هنا، يحلم بالعربية،
يحق له امتلاك القدس.
وضعت عينيها عليّ، وتركت أصابعها تبحر في بحر شعرها الأسود.
-
كما تلاحظ، أنا سمراء وشعري أسود، فلا أحد يصدقني عندما أقول إنني أرمنية.
يحتجون على الحرية التي علمني إياها والداي، ويعتبرونني عربية مزيفة!
- على العكس، على العكس...
اعتدلت، وسألتني:
- أنت لست ضدي إذن؟
- على العكس، على العكس...
- أنت لست ضدي؟
- يجب أن يبقى المرء معتدلاً في أحكامه. بفضل هذه الحرية التي علمك إياها والداك أجدني لم أزل حيًا!
ضحكت
برقة. كنت أسمع ضحكتها، ولدي شعور بأنني رقيقها. كان ذلك يجعلني سعيدًا.
كلهم عبيد في الخارج، ومع ذلك يعتبرون أنفسهم أحرارًا، ويريدون استعباد
العالم.
فجأة، وصلت ضوضاء من الخارج، وهذا الصراخ:
- عاهرة قذرة!
قُذفت قنينة نفط على النافذة، تبعها عود كبريت. تفجر الزجاج، والتهمت النار الستارة. استطعت إطفاء كل شيء.
- ونحن، أيتها العاهرة!
سارعت لأرى من هم أولئك الزعران الذين تثيرهم الحرب لدرجة الحلم بالسرقة والاغتصاب. هرب ثلاثة أشخاص أو أربعة بأقصى سرعة.
- إنه الثمن الذي على المرأة الحرة أن تدفعه في هذا البلد.
- أعتذر لأجلهم، أزقة القدس لم تُصنع من حجارة القداسة.
- ليس هذا بالخطير. أنا معتادة. لنعد إليك الآن. لو لم أكن هناك منذ قليل لما استطعت فعل شيء؟
- لاستطاع سيل الغضب العارم جرفي معه، سيل الغضب هذا الذي يخطئ أحيانًا في معرفة عدوه من صديقه كما لاحظنا منذ عدة لحظات.
- لم تكن تريد النزول إلى الملجأ، أليس كذلك؟ لماذا؟
لم أشأ أن أقول لها إن هذه الحرب ليست حربي، إنني أحذر من الملاجئ.
- لأنني أفضل الموت وحدي، بعيدًا عن الجميع.
- لأن في رأيك حتى في الملاجئ سيموت الناس؟
- ليس لديهم مخارج للنجاة، بينما في الخارج...
- أنت تنسى أن النصر سيكون حليفنا، وأنه إذا كان على البعض أن يموتوا، فهم أعداؤنا.
قلت للمرة الأولى دون رِياء:
- نصركم أتركه لكم، ولي حرية اختيار موتي.
غرزت أصابعها في لحم كتفها حائرة، في المخمل والحرير، في الشهوة والمتعة، وخنقتني الرغبة في تمزيق شفتيّ على كتفها العاري.
- أن تختار موتك هكذا لهو من البلاهة لما يذهب كل البلد إلى النصر، إلى الحياة، كل البلاهة.
قلت وأنا أفكر أنها تعتبرني أبله بالفعل:
- أفضل أن أبقى في الخارج، بعيدًا عن الملاجئ.
- ولكن لماذا؟
ضحكت بخجل، واخترت الصمت.
ساد
الصمت ما بيننا. نظرت إلى المصباح المتدلي، والمصباح المتدلي ينظر بدوره
إليّ. أثارت نظرتي انتباه مضيفتي. لم أكن كالآخرين. لم أكن أركض ساعة الخطر
كالآخرين، إلى الملجأ. لم أكن أعريها بنظراتي قبل أن أدعوها أو أرغمها على
النوم معي. لم أكن شخصًا يغتصب الحياة الخاصة لشخص، حتى ولو كان جالسًا
نصف عار أمامي. هكذا كنت، وهكذا سأكون، رغم كل الرغبة التي كنت أكابدها في
تلك اللحظة، ولم أكن مسرورًا من نفسي. حتى هذه الحرب، حربي، حرب الحب هذه،
وربما حرب الكره، يجعلونني أخسرها سلفًا.
بعد قليل الوقت، نهضت قائلة:
- سآوي في الحجرة المجاورة، إذا ما احتجت شيئًا ما عليك سوى أن تناديني. سأنهض في الحال، لأن ملائكتي خفيفة.
وأطفأت
دافعة إياي في هاوية غائرة. شحذ الأثاث أنيابه التي بدأت بالتهامي، بتمزيق
لحمي. انفصلت الأمواج عن الليل، وغمرتني. ليل تيه. ليل منفى. أحسست بنفسي
أغرق في ذلك الليل المضل. ما لبثت أن ناديت:
- اتركي الضوء، من فضلك!
اعترت صوتي رعشة، فعادت تضيء الحجرة. أخذتُ نفسًا مديدًا، واستمددتُ من بسمتها الشجاعة.
هَمْهَمَتْ:
- إذن هو طفل يخاف الظلام، ولم أكن أعلم! كما تريد. سأترك الضوء مشتعلاً حتى تنام.
وأعطتني ظهرها، فهتفت بها قبل أن تذهب:
- لم تقولي لي اسمك!
كنت
أراها من الجانب، وكانت تبتسم. اتحد الخفق بين قلبينا. فكرت أنني أحتل
سريرها، وأنها تنام في الحجرة المجاورة. تخيلت ما كانت تفكر فيه: ربما كان
عليّ قبول البقاء معه، لكنه يتركني أذهب دون أن يقول شيئًا، لأنه أبله، أو
مغرور. له شكل الأبله، وفي العمق هو خجول كبير. يحذر حتى من مشاعره!
ومع
ذلك، كانت تربطنا لحظة صغيرة الواحد بالآخر، عشر ثوان كبيرة صغيرة تثقل
الوجود الذي كنا نحياه نحن الاثنان، كل واحد من جهته. إنها لحظة ضائعة، أو
إنها لحظة نتركها تفلت. قصيرة وهائلة في آن. ساكنة وخطرة. كل شيء يتقرر
خلالها، وأبدًا بعدها، بعدها يكون الوقت قد فات. لقد بدأ العد العكسي، بما
أن ساعة الصفر قد أزفت. عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة،
ثلاثة، اثنان، واحد، واحد، واحد، واحد... فكرت "صفر" بينما كانت تبتسم، لا
مبالية، بريئة. ومع ذلك، كانت لها ابتسامة محرقة، فتيلة الزمن ولهب
المعركة. فكرت في الصفر، وأنا أتعلق على شفتيها، كما لو كنت أريد تحاشي
سقوطي، نهايتي. بجاه الإله! كيف يمكنني الوصول إلى الصفر، ووضع حد لحياة
كاذبة بأكملها، لوجود عفن كامل، لكل الآمال الزائفة، لكل الأحلام الهدامة؟
وتلك الفاجعة المعلنة والممتنعة عن الولادة: واحد، واحد، واحد، واحد...
الممتنعة عن أن تكون بيننا، المقتاتة من دمنا ودمعنا. واحد، واحد، واحد،
واحد... قالت لي اسمها، وذهبت. ثم سمعت إغلاق بابها. تركت وراءها رائحة موت
غامضة مختلطة بعطرها الأنثوي. شذى فكرتها عن الحياة أيضًا. وهذا "الواحد"
الذي لا يني: واحد، واحد، واحد، واحد... والعقرب يتحرك، لكنه لا يتقدم.
العقرب يغني، وأنا أفكر: لم تبق سوى ثانية، ثانية واحدة للاجتياز، واحدة،
أخيرة، آخر ثانية، لكنها ثانية أخيرة عملاقة، تبدأ من حافة هذا السرير،
وتنتهي بعد مليون عام من القهر.

وأنا أنهض، لم أفهم في الحال أنني قضيت عدة أيام نائمًا. ستة أيام. كانت
الستارة مسدلة، وكان النهار في الخارج. كان يهيمن في الحجرة جو مفجع. قمت
بعدة خطوات، خطوات مثقلة، خطوات شخص عاجز. وأنا أفكر فيها، قلت لنفسي إنها
تنام في الحجرة المجاورة، ففتحت الباب، وألقيت نظرة في الممر. صمت غريب. ما
لبثت أن عدت لأسحب الستارة. شمس غريبة. فتحت النافذة، وتنفست بشراهة. هواء
غريب. هواء مسيخ قبض عليّ من حنجرتي. كان صباحًا ليس ككل صباح! كان الزقاق
خاليًا. كانت الدرجات الصاعدة إلى السماء، التي كان المسيح قد استعارها،
تفوح برائحة الجريمة والاغتصاب. كانت الجدران باردة وعارية، والبلاط قذرًا.
كانت تفوح عنها رائحة الدنس. كان الوقت باكرًا، وإلا لمحت على الأقل بعض
الذباب. إلا إذا كان هناك تفسير آخر. نظرت إلى ساعتي: واقفة! قرصت قلبي
عقرب. كان المهم ألا يتوقف قلبي عن الخفق. لم أكن أريد الموت. كان كذبًا ما
كنت قد قلته بخصوص موتي، بخصوص ما يدعى اختياري. لم أكن سوى جبان بين
جبناء آخرين. احتددت ضد نفسي، ضد غياب الناس في الطريق، الآلهة في مدينة
الآلهة. كانت الشمس هناك، وعاصفة من الأفكار السوداء تكتسح دماغي. كان
الزقاق ميتًا تمامًا، وأنا كنت لم أزل حيًا.
ذهبت إلى الممر. كان باب في
الصدر، وثان على اليمين، وثالث على اليسار. فتحت الباب الذي في الصدر:
الحمام. قلت لنفسي: الباب الذي على اليسار هو باب المطبخ على التأكيد. لم
أفتحه. قرعت الباب الأيمن ثلاثًا، ولم أنتظر جوابًا. دفعته. انفتح، وهو
يَصِرُّ. سرير غير مرتب، بقايا دخان لم ينقشع، لطخة من العفن ليست ابنة
الأمس. أخذ قلبي يدق دقًا جنونيًا. أين كان يمكنها أن تكون؟ كان الكل يدفن
نفسه في بيته، أما هي، فقد خرجت تاركة إياي وحدي. كنت وحدي في ذلك البيت
الذي لم يكن لي، وحدي في العالم الذي كان للآخرين. فحصت ساعتي الواقفة من
جديد. لم أعد أستطيع تصديق الوقت، كان الوقت قد مضى، وكنت نائمًا خلال قطعه
لي. خلعت ساعتي، وألقيت بها في عرض الحائط. كم كان ذلك يدعو إلى الرثاء:
الذي فعلته حطمت وقتًا محنطًا!
اتجهت بسرعة نحو الباب المقابل: المطبخ
كما توقعت. كان المطبخ باردًا بقدر الأشياء التي كانت تحيط بي. لم أكن
أتحسب خروجها، تركها لي وحدي، لم أكن أفكر في هربها مني، في هربها من
البيت. كان بيتها. لم يكن بيتي. كان بيتها هي. كانت قد ذهبت للعمل، بكل
بساطة. في المساء، بعد عملها، ستعود إلى البيت.
رجعت إلى الحجرة التي
كنت قد نمت فيها. وأنا أخلع الضماد من حول رأسي، علقت عيناي بورقة متروكة
على الطاولة الصغيرة. هببت إليها كي أتلقف الكلمات التالية: الحرب بدأت
بينما كنت نائمًا، فلم أشأ إيقاظك. لا تحقد عليّ لأجل هذا، لأن هذه الحرب
ستُكسب بغمضة عين، وأنت بحاجة إلى الراحة. استدعاني بشكل عاجل الفدائيون
الذين سمعت عنهم حتمًا، ربما تأخرت هذا المساء، ربما لا أعود قبل الغد،
وربما لن أعود أبدًا...
نظرت إلى أصابعي المتشنجة على قطعة الورق. كان
إزميل نحات يحفر فيها الموت، وقد امتنع صراخ متحجر عن تحرير حنجرتي. فتحت
فمي على سعته، فأفلت منه صفير أشبه بالفحيح. تلألأ العرق على جبيني، وما
لبث أن فتك بكل جسدي. كان لدي انطباع أنني سقطت في بركة من الفضلات. كنت
أحس بنفسي قذرًا حتى أعمق نقطة في كياني. تلويت، والدم يجمد في شراييني.
أردت القيء، نعم، القيء، بصق ذاتي، بصق أحشائي. ومن النافذة، بكل قوة كنت
أقدر عليها، عويت:
- النصر!
أجابتني قهقهات تتصادى في الزقاق.
كان
الموت هناك، كان في كل مكان، كان فيّ. لمحت في آخر الزقاق الهدم الذي فعله
القصف: البيوت السلفية، الأشجار الألفية، الفندق الذي كنت أريد النزول فيه
تلك الليلة. سمعت سلسلة من الانفجارات. رأيت الحرب أخيرًا، لكنى داومت على
البقاء وحدي، متروكًا، وحدي، مسحوقًا. الحذر الذي كنت أظنه طبيعيًا لدي
كان أبًا لعدم اليقين. كانت سحابات الدخان تعلو في كل مكان، وأجنحة الرماد
تتساقط. وعلى الرغم من كل هذا، كانت الشمس تشرق، بوقاحة، والصباح يرجع
بسفاهة.
ارتديت ثيابي، وخرجت، وأنا أتقاذف من زقاق إلى آخر. أخذت
الجدران تقص عليّ قصص الذين كانوا قد هدموها، وكانت البلاطات لم تزل تتأوه
من حملها لأقدام العمالقة الذين كانوا قد مضوا بها. أمس، كنت أسير هنا، كنت
أتمشى هنا، وأمس، كانوا قد دفعوني لأنني كنت أعيق العبور، أولئك الصغار،
أولئك الأقزام الذين لم يكن شأن لهم، والذين كانوا يبحثون عن ملجأ. كانوا
يعملون أقوياء على ضعفاء. سال دمعي. كنت أبكي على ضعف كل تلك النفوس
"الشجاعة"، على هزيمة كل تلك الأشخاص "المنتصرة". كنت أبكي على ضعفي، وعلى
هزيمتي عندما فكرت فيها فجأة، في مضيفتي الغريبة، تلك التي ضاع اسمها في
غابة ذكرياتي. أردت الانطلاق بحثًا عنها، اتباع آثارها. أردت استعارة
الطريق نفسها التي استعارتها، الطريق الوحيدة المفتوحة في تلك القدس
المهدمة، المقتولة، فتقدمت للحاق بها، للحاق بحياة الشرف. قمت بخطوة إلى
الأمام، خطوة في حربي، لأنني دخلتها منذ قليل. كنت متأكدًا. كانت حربي،
خطواتي، طريقي، فعجلت الخطى، وأنا أرفع قدمًا من الأنقاض، أدفع قدمًا في...

* من الأعشاش المهدومة المجموعة القصصية الأولى لأفنان القاسم 1972 بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.




ــــــــــــــــــــــــــ
الأعشاش المهدومة

قصة أفنان القاسم


كل نتيجة جديدة للجمع بين الطريحة والنقيضة في الجدل الهيغلي تخرج من تحليل نقدي تمهيدي: مرحلة من الهدم تسبقها وتعد لها.
إدغار لو روا


ماذا ستفعل، أيها الطائر البريّ؟
فكر سعدان في هذا السؤال
قليلاً، ثم رفع عينيه إلى القمة الزرقاء لشجرة لوز. حمى عينيه من أشعة
الشمس، وقال لنفسه: هذا حسن، سيكون النهار جميلاً! غرق بأصابعه في العشب،
وأذاب الذهب في العينين، فأضاء النضار أهدابه. سيكون النهار جميلاً! كان قد
وعد زوجته، نعيمة، إذا كان النهار جميلاً أن يفترشا العشب في المساء،
ويلتحفا بالسماء.
شد انتباهه ماء الساقية الرقراق، فأحس بجريان الدم في
عروقه، وانتفض على غناء البلابل. شعر بعضلات ذراعيه تتوتر كعضلات الجذافين،
ورأى كيف رسمت أصابعه في العشب المراكب، وكيف أبحرت في بحر أخضر. ابتسم،
وعاد يقول لنفسه: سيكون النهار جميلاً! اتسعت ابتسامته حتى بانت كل أسنانه،
وسقط شعره الغزير على جبينه. كان يبتسم. كان يبتسم، ويبتسم. بقناعة. تابع
بعينيه جناحي خُضَيْر يقطع السماء إلى عشه: سيكون الربيع جميلاً هذه السنة!
نهض، وذهب إلى الساقية. وقف على حافتها، ونظر إلى الماء الرقراق. أراد أن
يلقي بنفسه فيه، أن يغسل فيه كل بدنه. لكنه تردد: كان عمل كثير ينتظره في
المزرعة.
مد قدمه الحافية في الماء معترضًا مجرى السيل، وغطس بها في
الزبد المحمول على ظهر المويجات الكسولة، لكنه ما لبث أن عاد على عقبيه،
وراح يعدو. لم يبتعد سوى عدة أمتار قبل أن يوقفه بعض الضحك. بحث عن مصدر
الضحك من حوله، ووقع على زينب التي أخذت تضحك بملء شدقيها. أي قوام مختال،
قوام زينب! دخل حقل الكرنب، وكاد يوقعها، وهو يسارع إلى الوقوف قربها. كانت
زينب تداوم على الضحك الشجي، وفي يدها رأس كبير من الكرنب الأخضر. ابتسم
سعدان ببلاهة، وقال لها:
- اضحكي! هيا اضحكي!
توقفت زينب عن الضحك
دفعة واحدة، وتطلعت إليه بعينيها العسليتين، الصافيتين، فحسب أنه يرى في
مرآة عينيها وجه طفل بشعره الغزير المتساقط على جبينه وبأنفه الدقيق الدبق.
- اضحكي، يا زينب، اضحكي! لماذا لم تعودي تضحكين؟
أعطته ظهرها، وانحنت لتقطع رؤوس الكرنب، وتضعها في سلتها. بقي سعدان ينظر إليها إلى أن ناداه عبد القادر، رئيس العمال:
- سعدان، تعال!
لكن زينب رمته بنظرات والهة، وغدا لها شكل الأرملة الحزينة فجأة.
- سعدان، تعال هنا حالاً!
لم يكن سعدان سعيدًا، كان يجدف بين أسنانه:
- يا ابن الكلب، يا سعدان! ما الذي يريده من سعدان؟
- هل تأتي؟
صاح على مضض:
- أنا آت.
ثم لزينب:
- أي نهار جميل!
كان
الثناء لها بقدر ما هو للنهار. استعادت زينب بساطتها ومرحها، وأفلتت ضحكة
صغيرة كي تسعده، بينما لم يزل عبد القادر يطلبه. تغضن وجه سعدان، وهو يكز
على أسنانه مَغيظًا من نفسه:
- يا ابن الكلب، يا سعدان! لماذا لا يدعه وشأنه؟
كان يريد أن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الهامشيون
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الهامشيون

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات جلول لبنان Forums Jalloul Lebanon :: ادارة الموقع Site Management :: خاص بالمواضيع المتكرر و المخالفة-
انتقل الى:  
المواضيع الأخيرة
اعلان فلاشي
الهامشيون  Mahmou10
الهامشيون  Mahmou10
الهامشيون  Mahmou10
جميع حقوق موقع جلول لبنان محفوظة 2010-2011-2012-2013-2014 @
ملاحظة: جميع المشاركات والمواضيع في موقع جلول لبنان لا تعبر عن رأي إدارته بل تمثل وجهة نظر كاتبها
 | منتديات |دين الاسلامي| صور | افلام | العاب | برامج | فيديو | جوال |
سياسة الخصوصية

.: عدد زوار منتديات جلول لبنان :.