علي الطالبي شاعر يحفر قصائده على شجر الذكريات

قد يكون من المبكر جدا الحديث عن أعمال شاعر شاب لم يكن ليتخطى سنوات
قليلة على تجربته الشعرية، لكنه استطاع ان يلفت الأنظار اليه بشهادة تلك
التعليقات والردود على قصائده المنشورة والتي تعني في " مفهوم سوق البورصة
الأدبية " اقبالا كبيرا على قراءته وتذوق ما يكتبه من قصائد، وأول ما يمكن
ان نلحظه على شعره تأثره الشديد بما يمكن ان نطلق عليه بشعر الغربة والحنين
الى الربوع الأولى لنشأته مع ان تغربه لايمكن ان يقاس بما تعرض له شعراء
سبقوه وقاسوا ما قاسوه كما في هذه الأبيات التي تعكس مدى

علي مولود الطالبيحبه لبغداد يقول فيها :
إيه
يا بغداد يا أنثى على خصلاتها صلى القمر / فأريج الضوء فاح / وشذاك اليوم
لاح / إن حبي سوف يبقى / خالدا طول الدهر / إن هذا السيل في قلبي قدر/
لكنه ومع حنينه الجارف لوطنه نراه يرحل الى ضفة ثانية هي ضفة التغزل
بالجنس الآخر واعني بها المرأة التي اخذت حيزا كبيرا في شعره كما لاحظنا
ذلك في ديوانه الوحيد " ضوء الماء " الصادر في دمشق هذا العام الذي يقول في
إحدى قصائده :
علميني أرشف الحب وأغفو في يديك / علميني أرجع الذكرى
فعيني / لم تزل ترنو اليك / علميني قبل أن ينساب موتي في سهولي / قبل أن
يصطرعا في داخلي / جذوة الشك وسيل من يقيني /

الطالبي هنا يحاول التركيز على هذين المفهومين والإشتغال بهما لأن جذوة
الفراق فيهما واحدة ، فراق الأرض التي ولد عليها وترعرع وهي عنده ملاعب
صباه وشبابه، وفراق الأحبة، الأب، الأم الحبيبة، وهو مانجده في نصه " رجل
في سماء الحكاية " وهي مطولة شعرية قصد بها التغني بأبيه وهي لعمري محاولة
رائعة انقطع عنها الشعر العربي زمنا طويلا عاد الفخر فيها مع أبياتها التي
تقول :
أبي كُحل كل مساء التمني / ومالي من بوحه مهرب / هروبا يرى
الكون ان العراق / بلاد بها الصبر لايتعب / توسد ثناياي إني - عراق - / وهل
مثل جرفي هنا ينجب ؟ / دموعي تراق على الرافدين / لكي لاينام ولا يحجب .
ومن
يقلب ديوانه ذاك يجد اللوعة بين اثنتين، لوعة من سكن الغربة على الرغم من
انه سكنها اضطرارا " للدراسة "، وبين من ودع ذكرياته في وطنه، ولا تعتريني
شكوك في معاناته التي يقول عنها أحد المشككين انها " تمثيلية " ناجحة
استهوت الشعراء لإرادة قول الشعر ليس إلا ؟ ، فالشاعر لايعرف التمثيل وما
يقوله قلبه ينطق به لسانه، هذا الكلام قاله لي من ينقد الشعراء في زحمة
كتابتهم عن التغرب والحبيب، لكنه صدق السريرة عند أغلبهم ومنهم الطالبي
الذي يشي قلبه بالكثير من ذلك التأوه والعاطفة ليقوله لسانه :
فما قلت
شعرا لغير حبيب / ويا فخر روحي له اكتب / وأيقنت انك خضت النزال / فيا ألف
صوت به يرهب / أبي .. يا أبي .. يا دما طافحا / ويا قارب الجرح لاتقلب /
فأنت العراق الذي ما انحنى / ويا ليتني دونه أصلب / أبي عانق الشمس / منذ
السفر / أبي قال للماء / أين المفر ؟ / أبي كان ضوءا / باقداح عيني / وهل
يلبس الغيم .. / إلا المطر ؟
أقرأ في أبياته هذه حنانا وحبا لأبوة
منتهاها عشق من لا يريد فراق ذلك الضوء والمطر، انظر كيف تسنى للشاعر ان
يجعل من ذلك الدفق سببا للحياة أبعدَ كل ذلك تمثيلا يا صاحبي ؟ :
أبي
يركب الأفق / والموج / وجه القمر / أبي / أبي .. على قدر عرض الفضاء /
يزداد اتساعا / وحجما / ليستريح في الكوكب الثامن / وضوء القداسة على جبهته
/ يتقد ...
في قصيدة " لحظات هاربة " من نفس الديوان أقرأ كلماته التي
أراد فيها أن تكون بوابة للدخول اليها : " برغم عجلات الحزن التي تفسخ
تضاريسي، وتخربش بطبشورها على قارعتي محطة .. محطة ، تظل خيول الحب جامحة
في حضرتي " :
قلبي نقوش مراسيم من الندم / فيها بلابل دمعي غردت بدمي /
فالدمع أول طير لاح في حدقي / والعزف آخر عصفور غفا بفمي / يا مقلة النار
طلي وانظري وجعي / في كهف عيني دموع الحزن لم تنمِ / ، انه هنا قد يعكس
صورة محب هوى حبه في لحظة خيانة وما اكثرها :
طرقت بابك عيني خاتم بيدي
/ هلا شربت .. فكاس الدمع من سقمي / أتيت نام بدربي نهر عاشقتي / سرقتُ من
فم حزني أجمل النغم / فرحت أسكب لون الليل في قلمي / ورحت أبحر والمجداف
من ألمي / رفقا فقارورة الأحلام بين يدي / كسرتها حين سال الشهد من عدم /
لملمت منه ندى صبحي بزورقها / فرفرف القهر في مرساي كالعلم /

أجمل ما في شعر الطالبي هي هذه الصور التشكيلية فهو بارع بانتقاء
ألوانها من فيض روحه الملتاعة مع انه لم يكن قاسيا في حكمه كقسوة بايرون (
1788 - 1824 ) الشاعر الإنكليزي الوله في مقطوعته الغنائية التي أوحتها له
علاقة حب عندما كان لايزال في الخامسة عشرة من عمره، مع أننا نعلم أنه قد
فارق الحياة في سن مبكرة لاتتجاوز ال 36 عاما، وقد كتبها بعد مضي خمس سنوات
على تلك العلاقة :
عندما افترقنا في صمت ودموع / وقلوبنا تحطمها
الكآبة أو تكاد / لتفصل بيننا سنوات وسنوات / امتقعت وجنتك صفراء باردة /
وكانت قبلتك اكثر برودة وفتورا / وباخلاص تكهنت تلك الساعة بالحزن والكآبة /
أنداء الصباح غمرت جبهتي باردة مقشعرة / وفيها تسرب ما أشعر به الآن من
حذر وانذار / وكل وعودك تحطمت منقوضة / فما أهون وأحقر صيتك / اسمع اسمك
تتناوله الألسن / فأقاسمها خزيه وعاره !
أعود لأقرأ بقايا " لحظات هاربة " وهي قطعا لم تك كمثل التي قالها اللورد بايرون في حنقه :
ذكر
لها في شغاف القلب أغنية / تبكي على قلبي المطعون كالديم / ركضت ألثم هذا
النهر في قلقي / إني أضعت سراط العشق من قدم / أبحرت يا سفني في ذكريات فمي
/ والنار أمواج صمتي والبكا " بلمي " / آه على لحظات العشق ضاع بها / أنين
جرحي وما عانيت من سقم .
شاعرنا الطالبي وهو يدشن شعره بتلك اللوحات
الفنية هيأ لنفسه دون قصد منه مرحلة وردية طغت على تغريبته وحبه لأولى
الأراضين التي استقبلته أول مرة في " سر من رأى " وهذا ما نلحظه في عديد
قصائده المنشورة في ديوانه الوحيد، وكأنه كتبها على ورق الورد وهي مرحلة
يضج بها الشعراء الشباب كما طالعتنا تجارب الكثيرين منهم، حتى اذا ما قوي
عودهم وأصلب راحوا يبحثون عن مراحل جديدة يؤرخون لها في شعرهم كتجربة
السياب والبياتي والملائكة ويوسف ونزار قباني في خمسينيات وستينيات القرن
الماضي مع شعراء كثر، وفي السبعينات والثمانينيات من نفس القرن حينما أطل
يحيى السماوي وسركون بولص وفاضل العزاوي وآخرون كثر، وقد اعجبني قول الشاعر
السوري صالح دياب المقيم في باريس حاليا حينما قال : " إن شعراء السبعينات
هم المؤسسون الحقيقيون، وقد أعطوا للشعر العربي على صعيد الاقتراحات
الجمالية والفنية والانفتاح على العالم ما لايقاس اطلاقا بنتاج الستينات
... " ، الشعراء وبتوصيف دياب وانا أؤيد هذا القول ومع مرور كل عقد من
السنين كأن تكون الثمانينات وما بعدها هم مؤسسون حقيقيون لكل تلك
الاقتراحات الجمالية وهذا ما يعطي الحق لشاعرنا علي مولود الطالبي ان يكون
كذلك وهو يعيش العقد الأول من الألفية الثالثة مع شعراء كثر تزدان المكتبات
بمجاميعهم الشعرية ويتبارون على مواقع ثقافية كثيرة وصحف ومجلات، وحينما
نقرأ جديده نحس ان وردة اخرى تفتحت نشم طيبها فنزداد اشتياقا لما يأتي منه ،
في قصيدة " أرجوحة بلون الصباح " التي كتبها في غربته نحس بطعم البعاد
الذي يخيم على النفوس فيجعلها حيرى حبيسة موج متلاطم من الظنون :
جبان
هو البعد / يهرّبُ القلوب من أوكارها / ترجمان غربة بسلطة متعبة / جزاء
لوعة ، ربما .. / أو خنجر يخيط قتات الانتظار / ليلد من قسوة الصخر / برعما
/ حالما أن يتعشى على صدر اللقاء / وبسرد قصة هيامه على كراسي الجوع /

وفي قصيدته " عواطف البجع " ينقلنا وهو في غربته الى صورة جميلة لمن
يحب ، يتغنى به ، يشتاق اليه مع انه يعيش في ارض أخرى تفصله عن من أحب
أنهار وقفار ، وجدت في كلماتها بوحا لم اعهده في قصائده الأولى محققا تلك
الاقتراحات الجمالية التي تحدثنا عنها :
لعينيكَ يا بدرَ الدجى أتطلع /
وهذا الذي أصبو إليه / وأطمع / لكَ النور في هذا الوجود يلفنا / ونور
أمانينا / بوجهك يسطع / هو الحب في قلبي اليك وإنه / يفيض ويبدو في / عيوني
فتلمع / إذا غاب / بدر الأرض لست بآبه / إذا كنت قربي حيث نورك أروع /
سأسهر كي أبقى أناجيك ليلتي / تطالع فيك الحسن عيني وترتع .
علي مولود
الطالبي شجرة وارفة في بستان الشعر ، كلماته ندى ، جروحه يضمدها بأوراق
الخريف ، وفي كل قصيدة جديدة له نسمع أنينا يخرج مع أنفاسه فتهتز له
الأشجار حانية وربما باكية ، لكنها في قولة أخرى له ضاحكة مستبشرة .
أحمد فاضل