صبحة بغورة
بدأ
أزيز محركات طائرة " البوينج " يبعث هديرا يصم الآذان ، المضيفة تمشي
برشاقة بين المسافرين متفحصة أحوالهم، حركاتهم لا تهدأ ولا تسكن ولو للحظة
.. هي في ذهاب وإياب كنحلة متنقلة من زهرة الى زهرة توزع الابتسامات على
الكل، تكلم هذا ويناديها آخر، وهي أمام كل هذا لا تجزع، لا تكل أو تمل .
أما
هو فلا يحس بشيء من ذلك منكسا رأسه ودمعتان دافئتان تخطان خديه، بنظر إلى
القيد الذي يكبل يديه مرة ويلتفت إلى رجل المباحث الذي يرافقه مرة أخرى ،
ولا أحد منهما كلّم الآخر أو سأله، وكأن كلاً منهما يعيش عالمه الخاص .
وبدا
شريط الذكريات يمر أمامه.. تذكر اللحظة التي قرر فيها الهروب من الوطن،
كان ذلك في الشهر الماضي عندما منّوا عليه بتأشيرة للدخول إلى بولونيا،
كانت فرحته في ذلك اليوم عظيمة لا تضاهيها فرحة، لو وزعت على أهل الأرض
جميعا لوسعتهم وفاضت عليهم، أحقا سيصبح حرا ؟ أحقا سيترك المعتقل الكبير
ويسافر إلى الخارج .. إلى الحرية ، هناك وراء البحار ؟
رغم الاهانات
التي تلقاها في مطار بولونيا إلا أنه كان سعيدا، فعزاؤه الوحيد أنه خارج
الوطن، بل أصبح هذا الوطن مجرد ماض فيه الكثير من الألم، فجحيم الغربة أهون
بكثير من نعيم الوطن، بمثل هذه الكلمات كان يعزي نفسه . لأول مرة تطأ
قدماه أرضا غير الأرض التي اعتادها، لأول مرة في حياته يشعر فعلا أنه يتنفس
الحرية لا الهواء .. هنا لا توجد حواجز يقف أمامها رافعا يديه لساعات طوال
بسبب أو بدونه، أخيـرا تحقق الحلم .. ولكي يصبح الحلم كاملا عليه أن يقصد
الحدود ليدخل الأراضي الألمانية، لم ينتظر حتى ينقضي النهار فراح مباشرة
نحو الحدود مع شلة من أمثاله المحرومين يقودهم دليل دفعوا له " أتعابه "،
وراح يرسم لنفسه مستقبلا بلا قيود، سيصبح كالطير المحلق في الأجواء حرا
طليقا، ستنكسر قيود الذل و المهانة و البطالة و التهميش ، نظر واستبشر إذ
لم يعد يفصله عن ألمانيا سوى نهر وبعض الكيلومترات ويتحقق الحلم، هاهي
أنوار برلين تخترق ظلام سكون الكون وكأنها لا تعرف لليل وجودا .. شق سمعه
صوت اخترق سكون الليل الهادئ ونفذ إلى نفسه المطمئنة الساكنة في ردهة
الأحلام الوردية نفاذ الخنجر إلى سويداء القلب .. " آه يـا رب لم جعلتني
بين البشر شقيا ؟ إنهم حراس الحدود، لقد قضيَ على أحلامي " رددها على نفسه،
لم يفكر كثيرا وألقى بنفسه إلى النهر صارخا : الموت غرقا أهون من الرجوع
إلى الوطن، راح يسبح متحديا النهر، وحراس الحدود في أعقابه بزوارق خاصة
وكلاب مدربة تطارده من الضفة الأخرى، انه محاصر من كل الجهات ولم يدم الوقت
كثيرا حتى كان في قبضتهم، وفي لحظة ينهار كل ما بناه، قيدوه وحملوه في
عربة عسكرية مع كثير من البائسين أمثاله، أخذ ينظر إليهم واحدا واحدا،
وجوهاً سمراء تعلوها سحابة حزن و أسى، قلوبهم مملوءة غيظا، نفوسهم محطمة،
أملهم الأخير راح أدراج الرياح، سرى بينهم صمت رهيب كالذي يسير في جنائز
الأموات .. لم يشعر بشيء مع هذه الذكريات حتى قطع عليه رجل المباحث تفكيره و
خياله : جهـز نفسك .. لقد وصلنا يا صاحبي ، تفاجأ لهذه النغمة الجديدة فلم
يعهد مثل هذه الكلمات الرقيقة من مثل هؤلاء الرجال، نزل من الطائرة يجر
خيبة بقلب مملوء حسرة ونفس مكسورة وألم لا يضاهيه سوى ألم عصفور هرب من قفص
عاش فيه طيلة حياته ولما أوشك على الخلاص منه أعيد إليه بعد لحظات من
الحرية .
ها هو يعاد إلى أرض الوطن ليعيش على الهامش من جديد ويصبح
كرماد تنثره رياح الحياة يخمد في نفسه كل شيء، أخذه رجل المباحث وسلمه إلى
مركز الشرطة ورموه في زنزانة ظلمتها أحلك من الظلام، مرت عليه الساعات ولا
أحد بحث عنه أو سأل، ولا حتى هو كان يبالي بما سيحدث فبالنسبة إليه الحياة
توقفت، فكل شيء أنقضى، فوجوده داخل الزنزانة أو خارجها شيء واحد .
بعد
انقضاء 48 ساعة استدعاه المفتش .. دلف إلى مكتبه بعدما أمر بذلك، وجده
يلاعب كلبا ألمانيا، تذكر ألمانيا فخر على المكتب ينتحب نحيب الثكلى، ومن
حين لآخر يرفع بصره إلى الكلب وسرعان ما يعود إلى نحيبه مرة ثانية حتى اهتز
كيان المفتش أو أدرك أنه حالة شاذة وقال له بلطف : لا تخشى الكلب، انه
هادئ .. نحن فقط نريد أن نحقق معك ونتركك لشأنك، فلا تجزع .
نظر إلى
المفتش وعيناه تنهمر دمعا، ونفسه يلتهب حسرة، وقلبه يكاد ينفجر أسى وقنوطا،
وقال بهدوء مشيرا إلى الكلب : أهذا الكلب ألماني ؟ نظر إليه المفتش متعجبا
ورد عليه : أجل انه ألماني، لا تخش شيئا، ثم أشار الشاب بأصبعه إلى نفسه
وقال : و أنا إنسان .. ؟ اضطرب المفتش من سؤاله واعتقد أن الشاب فقد عقله :
أجل.. أنت إنسان، انفجر الشاب باكيا : إنني أتنازل لكم عن إنسانيتي،
اعتبرني كلبا وامنحوني حقوق الكلاب ... صمت قليلا وانفجر يضحك بهستيريا ثم
ما لبث أن هدأ فجأة وراح ينبح ويعوي في نفس الوقت نباحا وعواء ليس فيهما
نباح الكلاب و لا عواء الذئاب .. ولا حتى صوت كائن في هذا العالم .. ولكنه
نباح و عواء الروح التواقة إلى الحريــة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السيـــــــــرة الذاتيــــــــــة
* صبحة بغورة ، شاعرة وقاصة وكاتبة جزائرية
متزوجة وأم لثلاثة أطفال .
* تعود بدايتها في النشر إلى عام 1999 (
شعر ـ قصة ـ مقال ـ خواطر ) في الصحف الجزائرية الحكومية والخاصة ومنها
الشعب، الأصيل، الفجـر، كواليس، السـفير، الصحافة، المجاهد الأسبـوعي،
اليـوم، صوت الأحرار، المساء، الأحداث، كل الدنيا، الجزيرة، الموعد، مجلة
أنوثة، مجلة الهدى، البلاد، الجامعة، الخبر الأسبوعي، الحــوار .
*
انتقلت منذ عام 2001 إلى متابعة نشر إنتاجها الأدبي في عدة صحف عربية مثل
الصحف القطرية الرايـة، الوطن، الشرق، العرب ومجلة هي وهو ، والمجلات
الإماراتية مجلة الرافد ، و دبي الثقافية ، ومجلة حــواء اللبنانية ، ومجلة
الحدث الباريسية، مجلة العربي الكويتية، كما نشرت المقالات بغزارة في
المجلات السعودية المعرفة، الدبلوماسي، أطفالنا، العربية، الفيصل الأدبي
والثقافي، وبجريدة العرب اليوم الأردنية، وفي مجلة المعرفة وصحيفة الثورة
السـوريتين .
* اتجهت بين عامي 2004 ـ 2007 إلى إعداد الصفحات اليومية
الخاصة بقضايا الأسرة وشؤون المرأة والحياة الزوجية والأسرية والعائلية
وعالم الطفولة والصحة النفسية والبدنية والتجميل والديكور والطبخ .. إلى
جانب إعداد صفحة الأخبار الفنية وإجراء الحوارات مع الفنانين وعمل
بورتريهات لنجوم عالميين وذلك بالصحف اليومية الجزائرية الصباح الجديد،
الشروق، النهار الجديد، الديار، وقامت بكتابة المقالة تحت عنوان " فضفضــة "
في صحيفتي الحـقائـق والمنارة الأسبوعيتين .
* يمكن الاطلاع على بعض
أعمال صبحة بغورة بالمجلات والصحف الالكترونية مثل أنهـار الأدبية، اللوتس
المجاهر، النون المصرية، كتابات في الميزان، مركز النـور وفضاء حائــل .
*
أصدرت الشاعرة صبحة بغورة ديوانها الشعري الأول علم 2008 بعنوان "
امــــــرأة أنـــــا " تضمن 22 قصيدة رومانسية رسمت من خلالها عالما بلا
حدود عاطفيا في ظاهره واقعيا في حقيقته محوره القلب و العقل معا، حملت كل
قصيدة جنونا شعريا من نوع جديد لامرأة تريد أن تحدد أنثى تنتمي إلى عالم
الغد، تبوح بمكنونات المرأة وأسرار الأنوثة بكل عزة و كرامة . تناولت عدة
صحف الديوان بالإشادة ومنها الصحف الجزائرية الشروق، الحوار، الشعب، صوت
الأحرار والأحداث، إلى جانب مجلة الفيصل الأدبية السعودية، وصحيفة اللوتس
المهاجر الالكترونية .
* للشاعرة صبحة بغورة عدة حوارات منشورة في الصحف الجزائرية والعربية مثل الشعب، الشروق، كل الدنيا ، وصحيفة الرايـــة القطرية .
*
قامت أكاديمية المجتمع المدني بالجزائر في شهر مايـو 2011 و من خلال
المرصد الوطني لترقية المرأة في ختام مهرجان الشعر الشعبي النسوي الذي
حضرته الشاعرة صبحة بغورة كضيف شرف بمنحها شهادة تكريم اعترافا بإبداعاتها
الأدبية .