قراءات في مجموعة "ثورة عقارب الساعة"

مجموعة من النقاد


النقا
نهار حسب اللهد المساهمين في القراءة:
• مثنى كاظم صادق
• عبد اللطيف الموسوي
• علوان السلمان
• إسماعيل إبراهيم عبد
• ناطق خلوصي
• عبد الكريم الساعدي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثورة عقارب الساعة... قصص المواقف اليومية
مثنى كاظم صادق
إذا
كانت القصة هي عرض صراع بين قوتين في حالة نزاع لغاية ما بحسب الناقد
جوزيف شبيلي فإن قصص (( ثورة عقارب الساعة ))(1) تمثل صورا شتى من الصراعات
، لشتى القوى ، ولشتى الغايات في المجتمع العراقي المأزوم بهويته ,
والمهزوم بانتصاراته !! . من هذه الخلطة العجيبة خرج القاص المبدع ( نهار
حسب الله ) طارحاً صوراً شتى لما حدث ، وربما سيحدث !! مستشرفاً المستقبل
من واقع المجتمع الذي سادت أو كادت أن تسود فيه شريعة الغاب ، التي يكتوي
العراقي بنارها يومياً . قصص المواقف اليومية هي ما نطالعه في هذه المجموعة
، وأحمد في القاص أسلوبه الجديد هذا إذ نلمس فيه غرض السرعة في إكمال هذه
القصة ( الموقف ) أو تلك ، وهو ما ينسجم مع ما يريده الناقد وايت وايزمان
حيث ( يريد ببعض القصص أن تقرأ أثناء انتظار سيارة الأجرة ) ولاسيما في ضوء
التجربة الجديدة التي نعيشها، ويعيشها الشباب الجديد ، فلم يعد المتلقي
يقرأ القصائد الطوال أو الكتب ذات المجلدات الكثيرة أو المقالة التي تغطي
نصف صفحة أو صفحة ، فالعالم يتجه نحو الاختزال المفيد ، ولعل هذا ما فطن
إليه القاص بذكاء ، وهو في بداية مشوار إثبات وجوده الإبداعي في ثورة السرد
القصصي الموجودة في الساحة العراقية ... وحسناً فعل . تتجه نصوص القاص
المبدع نهار حسب الله في مجموعته القصصية هذه إلى التحرش بالتابوات الثلاثة
( الدين / الجنس / السياسة ) بشكل تجريبي ؛ لتعرية الذوات المأزومة
والمهزومة ، حيث يتجه قدماً إلى النقاش المفتوح حولها ، بالاشتغال على بنية
إنسانية واقعية معاشة تعالج الواقع بمستوياته المتعددة بصورة مكثفة ؛ إذ
تنهض الألفاظ المتداولة اليومية في قصصه على دلالات جديدة ، من خلال كسر
أفق التوقع ، ضمن النسيج الكتابي ، بفاعلية الأحداث التي تخضع في كثير منها
إلى الفنتازيا ذات النكهة العراقية بامتياز. إن القاص نهار حسب الله يقص
علينا قصصنا ، ويؤرخ لنا أحداثها ؛ بخروجه من عالمه الداخلي / الذاتي ؛
ليواجه بشجاعة الشباب عالمه الخارجي / الآخر الفاسد الشرير ، ويشجعنا
للخروج معه للمواجهة ، موظفاً لذلك عنصر المفارقة الغرائبية أحياناً التي
تقترب من القفشة أو إن شئت قل ( القرصة ) كي ننتبه إلى مأزق الوعي العراقي ،
الذي يعيش في عالم متناظر مختلف ، ويحث الخطى بالتمسك بالحالة المعكوسة أو
المضادة من الأفكار . ثورة عقارب الساعة قصص تطرح الكثير من الأفكار
الجريئة الراديكالية ، ولاسيما من خلال العرض الرمزي المكثف غير المتكلف ،
حيث عملية نبش الحزن ، والمأساة والأحداث الدامية ، التي مررنا بها من خلال
إدانة واضحة للشر والفساد وإعادة صياغته من جديد ، إن الإنسان العراقي في
هذه القصص مشطور إلى شطرين أو أشطر إما حي أو ميت أو بين بين ، ولعل ثمة
نبوءة مستقبلية كامنة تحت طيات هذه القصص ، هي محاولة لتجميع تشظيات الوجه
العراقي وإعادة تركيبه المتكسر من جديد قبل فوات الآوان .
(1) ثورة عقارب الساعة ، قصص قصيرة جدا ، نهار حسب الله ، سندباد للنشر والإعلام القاهرة ط1 / 2011
ثورة عقارب الساعة .. صهر الخيال بالواقع

بقلم/ عبد اللطيف الموسوي
لايشي عنوان هذه المجموعة القصصية للقاص
الشاب نهار حسب الله يحيى، بمضمون القصص التي احتوتها وبالرسالة التي يريد
القاص ايصالها الى المتلقي،
فمعظم قصص المجموعة تتحدث عن واقع مابعد
الاحتلال الاميركي للعراق ولاسيما في سنوات الفتنة الطائفية، غير ان عنوان
المجموعة الجميل الموسوم بـ"ثورة عقارب الساعة"، الذي هو عنوان لاحدى قصص
المجموعة ،لايعكس اية صورة لتلك الاحداث، غير ان القصة التي تحمل عنوان
المجموعة تحمل بعداً ثورياً، إذ تتحدث عن طغيان حاكم وثورة شعبه عليه، وهو
امر يتلاءم مع ما يعيشه العرب هذه الايام، وربما في الامر ثمة مصادفة، او
ان القاص تقصد ان يختار هذا العنوان ليتواءم مع الربيع العربي، ومهما يكن
من امر، فأن هذا الخيار يحسب للقاص، إذ ان العنوان الجذاب لأي كتاب، عادة
ما يجر المتلقي الى اقتنائه ومن ثم قراءته.
ولايبدو غريباً ان يتأثر
قاصنا بإحداث بلده التي اجرت انهاراً من الدماء، ومثل هذا التأثر يحصل في
كل زمان ومكان، بل ان الكاتب الاصيل لابد ان يكون المرآة النقية العاكسة
لهموم مواطنيه، فكيف إذا كان هو نفسه قد اكتوى بتلك النار.
ويقيناً ان
تلك النار التي استعرت في قلب قاصنا واسرته لدى تعرض شقيقه الى الخطف
والقتل غيلة، قد انطلقت من قلبه بإتجاه سطور قصصه، فأحالتها الى براكين
هائجة لاتكاد تنطفيء حتى تتقد من جديد.
وهكذا قرأنا في قصص المجموعة
مفردات مثل " اشلاء متفحمة، قتل وارهاب، حزام ناسف، سيارة مفخخة، عشاء مع
النبي، شظايا، جثة متفحمة"،لكنه لم ينس في غمرة تلك الاحداث، المشاكل
الاخرى التي يعانيها المجتمع، وهكذا طالعتنا مفردات مثل " طائفية،
انتخابات، فدرالية، كهرباء، بطالة، تعيين وغيرها" وهنا نشير الى قصص" مازال
يبحث عن عمل ، انتخابات، برلمان صناعة الموت، اغتصاب، إضراب، أزمات،
وسواها".
مايحسب للكاتب ايضاً افادته القصوى من كل شاردة وواردة وتحويله
تجارب شخصية الى قصص قصيرة، بل انه جنح احياناً الى الخيال من اجل ايراد
فكرة ما وإبلاغ رسالة معينة الى المسؤولين والسياسيين .
وفي خضم تلك
الاحزان، لم يغفل القاص الجانب الجميل من الحياة الذي يكاد العراقيون قد
نسوه، فحاول ان يدغدغ مشاعر قرائه ببعض القصص الرومانسية لكي لايكون الحزن
الغالب على قصص مجموعته، سبباً لرفض القراء لها، كما رفضت دار الشؤون
الثقافية نشرها بدعوى غلبة السوداوية والتشاؤم على قصص المجموعة.
الى
ذلك، عاد بنا "نهار" الى سنوات النظام السابق فتناول المآسي التي كان
العراقيون يعانونها حينذاك بأسلوب مشوق وجميل، وكأنه اراد التأكيد ان
معاناة العراقيين تمتد الى حقب ماضية وليست رهينة زمن الاحتلال.
ضمت
المجموعة القصصية اكثر من ثمانين قصة قصيرة، تناولت العشرات منها، كما
قلنا، سنوات مابعد الاحتلال ومنها قصص" مكالمة اخيرة، حتى احيا، رحلة البحث
عن جثة، مذكرات ميت، كرامة حذاء،جلوس ابدي، وغيرها، لكن القاص يبدو قد آثر
الميل الى ان يضخ جرعة زائدة من جهده بإتجاه رحلته الساعية للبحث عن
الحرية، وهو امر تجلى في اهدائه، كما انه سعى للتعبير عن رفض التطرف الديني
ونبذه، بالاضافة الى الطائفية المقيتة ونزف الدم العراقي البريء، وهكذا
رصد شخوصه واحداث قصصه ببساطة وعفوية، من دون ضجيج ، لينقل مأسي العراقيين
مستخدماً تقنيات متنوعة من السرد وإن غلب عليها مزج الخيال بالواقع،
والجنوح الى التأمل والخيال، لكنه ايضاً لم يغفل ذكر الكثير من الحالات
الانسانية، بل ان بعض قصصه احتوت على ومضات معبرة .
صدرت المجموعة التي تبشر بكاتب واعد، عن دار سندباد للنشر والاعلام في القاهرة ووزع في مصر وبلدان عربية اخرى.

القص القصير جدا عبر عقارب الساعة
بقلم/ علوان السلمان

القص القصير جدا جنس ادبي يستجيب لسرعة العصر باعتماد السردية المكثفة
والابتعاد عن التسجيلية المسطحة والاستطراد..من اجل تحقيق التجاوز لتقليدية
الزمكانية والحدث والشخصية واللغة الوصفية التقريرية.. وتحقيق درجة من
الشعرية والدلالة باعتماد التكثيف في اللغة والاختزال في المضمون..لذا فهي
قصيدة نثرية ..ومضية.. شعريتها غطاءها الخارجي.. انها لقظة سيمية تصور لحظة
عيانية خاطفة ..اضافة الى امتلاكها لغة ذات معاني ودلالات متسعة ..عميقة
الرؤيا المفعلة جماليا عن طريق الايحاء والرمز من اجل تقديم نص مكتنز
بمنفعته ومتعته ولغته المتجاوزة بطريقة معصرنة تعتمد التكثيف الدلالي
واثارة التأويل مع اعتماد عنصر المفارقة الذي يحكم ستراتيجية النص التي
يظهرها السارد بوعي معمق يغني النص ويحرك الخزانة الفكرية للمتلقي..
والقاص
نهار حسب الله في مجموعته(ثورة عقارب الساعة) الصادرة عن دار سندباد للنشر
والاعلام /2011 والتي احتضنت بين دفتيها سبعا وسبعين نصا قصصيا قصير
جدا..فيها يعتمد القاص الحدث المركزي واللحظة العيانية المقتنصة من الواقع
والمتميز بتماسك بنائها وقوة دلالتها..مع اهداء ينطوي على شحنة دلالية تكشف
عن نفسها بتأويل نصوصها..اذ انه اهداء تضامني مع انسان الزمن الذي يبحث عن
الحرية ..كمن يبحث عن نقطة ضوء في ظلمات ارض الوطن..
(الى من افنى حياته باحثا عن الحرية..
(الى من اكل صبره في ارض الوطن..)
فالقاص
عبر مجموعته هذه يضغط جملته السردية بلغة فنية مسبوكة بدقة ..تنأى عن
الحشو غير الموظف في اغلب نصوصه..مع شحن جملته بنفس شعري متوالد من الجملة
المكثفة واللفظة الرامزة..كونه يدرك ابعاد نصوصه ومراميها الدالة على نقد
الواقع من اجل تثوير الشحنات النفسية باصطياد اللحظة المشحونة بهمها
العاطفي ..الوجداني..البيئي.. الاجتماعي ..وتصويرها..
(جربت عددا من
المفاتيح ..وادركت بعد طول عناء السنين ان كل مفاتيح الدنيا غير صالحة لان
تكون بديلا عن مفتاحها الذهبي الذي فقدته ايام خطوبتها ..اقتنعت بمفتاح
واحد تفتحه على الدموع والاسى..) ص34
فالقاص يعالج عبر نصه هذا شكلا من
اشكال الاسقاط prajection النفسي.. ..اذ معاناة المرأة عبر قلقها النفسي
الذي كان سببه غصة اجتماعية..مع محاولته اضفاء مسحة من الشعرية والترميز
على نصوصه والتي تضفي على عالمه السردي صورة تحمل رؤية وعدد من الدلالات
المفتوحة على دلالات يكشفها المتلقي بالتأمل والتحليل..مع اعتماد الضربة
المفاجئة التي هي طريقة في الاداء الفني والتي تقوم على ابراز التناقض من
خلال جمل قصيرة ..مكثفة.. متسعة الدلالة..
(تجمهر عدد من الناخبين امام
قصر مرشحهم الجديد والذي حصل على اكبر عدد من الاصوات الانتخابية حاملين
شعارات مؤيدة كتلك التي تقول: (جاء الامل ) و(معا لمستقبل زاهر)..الا ان
المرشح الفائز اعتقد انهم من المعارضين لحكمه ففجر بينهم سيارة مفخخة..)
ص142ـ ص143..
لقد اعتمد القاص في نصه هذا الجمل القصيرة (تجمهر عدد من
الناخبين.) و(المرشح حصل على اكبر عدد من الاصوات..) و(جاء الامل) وهنا
مجازات استعارية..و(المرشح اعتقد انهم معارضين لحكمه..) و(فجر بينهم سيارة
مفخخة..) وهنا النهاية المفاجئة التي تحيل المتلقي الى اجواء الرمز symbote
الذي يجعل من النص يحتمل التأويل وتعدد القراءات(السيارة قد تعني خبرا
سارا او محزنا..او قوة قامعة..)..اضافة الى ان هذه الجمل القصيرة في معظمها
جمل فعلية (تجمهر..حصل..جاء.. اعتقد.. فجر..)وهي افعال تدل على
الحركة..لذا فقصصه تصور مشاهد القلق الانساني ..فكان تداخل الذاتي
بالموضوعي وكانت المزاوجة بين الهم الخاص والهم الجمعي..
(صور مئات الصور..الا انه اكتشف غياب الضوء عن الواقع والصورة..عندئذ لقب بحرفي صور الظل..)ص129..
فالقاص
هنا يستخدم الانزياحecant فضلا عن الايجاز والاقتصاد الكلمي كما في (غياب
الضوء)و(صور الظل) ..فالعبارتان مترادفتان ..والظل هنا رمز يمثل الواقع
الضبابي الذي ابدع القاص تصويره حتى لقب بحرفي صورة الظل..
(كان مولعا
بصور الاسود والابيض والكاميرات التي تلتقط هذا النوع من الصور على الرغم
من التكنولوجيا المتقدمة التي تقدم صورا عالية الجودة ..واضحة الالوان..
سؤل عن اسباب هذا الحب الغامض المتعلق بالماضي..؟
اجاب:
ان الماضي كان اجمل..وصور الاسود والابيض صور انسانية تكشف عن حقيقة
الانسان..كونها لا تبرز فظاعة لون الدم الذي نعيشه في زمن التكنولوجيا
والالوان..فضلا عن احتفاظها بمعنى الحياة الحقيقي الذي نفقده
اليوم..)ص129ـص130..
لذا فهي تحمل من المعاني والدلالات.. اذ ادانتها
للتكنولوجيا الحضارية المدمرة.. مع توظيف نسقية التناقض لابراز حدة الصراع
باعتماد لغة مكتنزة قادرة على التعبير والايحاء..
والقاص في اغلب قصصه
يجعل من ابطال قصصه ابطالا مموهمين فلا ملامح توضحها عمريا او شكليا او
اسميا ..مع طغيان تصوير مشاهد القلق الانساني..لذا كان تداخل الذاتي
بالموضوعي تصويرا وتعبيرا بلغة المجاز figurative tangage والضربة المفاجئة
..فكانت المزاوجة عبر مفردة خطاب سردي تتلبس بعدها الفجائعي..بتكثيف لغوي
وايجاز يرسم لوحة غامضة تفك رموزها ذاكرة القاريء وخزينه المعرفي لتحقيق
معادلة التلقي(المتعة والمنفعة..) ..اضافة الى انه يترك نهايات بعض قصصه
سائبة لاشغال رؤى متلقيه وتحريضها للتخيل والمشاركة..
(رن الهاتف في ساعة متأخرة من الليل..اجابت بحذر وارتباك منذ الرنة الاولى للهاتف..
ـ حبيبي اين انت.. لقد قلقت عليك..هل من مشكلة ..انا مشتاقة..
قاطع كلامها صوت غريب لا يمت لصوت حبيبها بصلة:
هنا المستشفى ..الشخص الذي تتصلين به مات برصاصة طائشة استقرت في دماغه..يرجى مراجعةالطب العدلي لاستلام الجثة..)/ص13
ومن
المآخذ التي تؤخذ على المجموعة اهمالها علامات الترقيم (الفواصل التي تحدد
الغاية والمعنى..) والوقوف على نقطة النهاية وبعض النقاط التي انتشرت بين
السطور..ومع ذلك نقول لقد حقق القاص ذاته عبر مجموعته هذه والتي تسجل
مزاوجة الهم الذاتي بالموضوعي عبر واقعية الحدث الذي تشير اليه النصوص ولا
تتحدث عنه..

ثورة عقارب الساعة... قص ضد الخوف

إسماعيل إبراهيم عبد
في مجموعته للقص القصير جداً (ثورةُ عقارب
ِالساعة) يتطلع القاص نهار حسب الله إلى الإسهام في تأسيس ثقافةٍ ضد
الإرهابِ والخوفِ والعنفِ. ففي هذه المجموعة هيمنت فكرةُ ( ضد الخوف ) على
الاتجاه الفكري مستوحياً من واقعِ مقاومة الإرهاب ثيمة رفضٍ لكل أنواع
الاستلاب البشري ، خاصةً الشكل الذي يتخذ من مؤسسات الدولة غطاءً له .
هذا
الاتجاه في الكتابة أو الثقافة يقترب بجرأته من المجازفة بالوعي والفن ،
ويتطلب صفات شخصية قبل أن تكون كتابية، وثقافة اللاعنف هذه تمثل له قيم
وثيم يطرحها بعدة وجوه ، منها : توضيح وفضح " تربية الإرهاب "، ومنها تشريح
عقلية الجريمة فضلا عن تعليم دروب مقاومة عقلية التخريب النفسي والروحي
المجتمعي وإقامة بنى وأسس القيم البديلة والإشادةِ بفعاليات البناء
المناوئة ، الخالقة لقيم الخير في النفس والمجموع ، وتعميق صلة الحضارة
بقيم الخلق والإبداع .
فيما نجدها من الناحية الفنية قد اعتمدت على نظام
صياغة المؤلف للمفارقة والمفاجأة في الضربة الأخيرة في القص، وهما عنصران
أساسيان في كل عمل سردي ، وحتى الشعري منه، لكن القاص نهار حسب الله هنا
أرادها قصصاً قصيرة جداً . . وفعلاً . . فهي قصص قصيرة جداً من حيث المساحة
الورقية لكتابتها ، لكن هناك مفهوماً أخر يعني بالقصة القصيرة جداً
ويستفيد من عناصر القص الأخر كمساهمات تغني القصة بالجمال اللغوي والفعل
الدرامي والمناورة الأسلوبية .
تجربة " ثورة عقارب الساعة " لها أهميتها
من عدّة جوانب ، أهمها الجرأة والصدق الفني والفكري كما أن الصياغة
اللغوية ـ أسلوبا وأداءً ـ قد حققت قدراً مناسباً من الإقناع بالتجربة
وبفنية وغائية النماذج القصصية المطروحة .ومما يوجب ذكره هنا، أن السرد قد
اختص بنموذج النظام الحكائي مما فوّت على الكاتب فرصة ان يضع قصصه في إطار
الفهم الجديد للقص . كما أن فرصة أخرى ضاعت على كاتبها حين اوقف جُلَّ
موضوعاته على العمل السياسي فجاءت القصص وثيقة إحتجاج سياسية على الوضع
المؤقت في العراق من دون الغوص عميقاً بالفكر السياسي فنياً . كما أن القصص
تعتني بالعبارات التقليدية التي تقلل من متعة وثراء لغة القصص .
لكن ميزات أخرى جعلت المتابعة شيقة وممتعة مثل اهتمام القصص بالمفارقة الاجتماعية خاصةً في تمدد اللقطة المفاجئة للضربة الأخيرة .
هذه الأسلوبية " تكاد أن تكون أبرز ظواهر استعمالية القصص " .
لقد
استحسن القاص قصة الدقيقة الواحدة والتي لا يتعدى وقت قراءتها زمن دقيقة
واحدة وحافظ على شكليتها وجماليتها بعدّها قصة " ومضة " المشتركة مع قصيدة
الصورة في جماليات السرد كلغة الكثافة الفعالية ونغمة الصوت الواحد قصاً
وشعراً .
كما حاول الكاتب - وبجرأة محسوبة - تحويل الهمَّ اليومي إلى
همٍّ أسطوري ، كأنما هموم البلاد ليست عصرية فقط إنما التجويع والإخافة
والإرهاب هي ثوابت للسلطة الحاكمة على مدى عصور تاريخ العراق . وهذه نتيجة
تحمل من الحقيقة القدر الكبير للسياسة في العراق .
يبدو على النصوص أنها
أقدار ملحمية وأسطورية تجتذب القراء من جميع المستويات " العليا والوسطى
والدنيا " سواء منهم المدرب على القراءة واولئك الذين ليس لديهم تقاليد
قرائية .
وتظل الكتابة القصصية - لجميع الكتاب - بها حاجة إلى مستلزمات أساسية ترسم درب النص نحو عقول القراء ومنها :
1- التركيب اللغوي المبهر
2- استثنائية الحدث وأهميته المتعلقة بالحاجة الاجتماعية اليه
3- تعميق دور الإشارة والتشفير في تنغيم وترابط أفكار النص
4- الارتقاء المألوف الواقعي إلى اللامألوف الصياغي المقنع .
كما
أن توجيه الخطاب الفني إلى الآخرين ، قراء ونقاد ، يتطلب ان يكون جاهزاً
لعدة تأويلات ، واحدة رسائل ، واحدة أفاهيم ، وهو ما يعني أن تطور الموهبة
إضافةً إلى القراءة والتجربة كفيل بأن يجعل الأثر الخطابي " القصة " وليس
الحكاية مأثرة جديدة تدفع بالفن الى الجدية والتجديد .
ملاحظة أخيرة : إن ثيمة "عقارب " تغتني بمعانٍ كثيرةٍ وتحمل " فلسفة " اللسع الزمني والحقيقي .
ثورة عقارب الساعة.. والاحساس العميق بالموت
ناطق خلوصي

كنت
قرأت نصا ً يُدرج تحت مصطلح " القصة القصيرة جدا ً " يُقال ان همنغواي كان
يضعه بين أفضل ما كتبه من أعمال . يقع النص في ست كلمات ويقول :
: baby shoes . never worn . For sale
وقد
نجد من يضع هذا النص في خانة "الومضة القصصية أو "الجملة القصصية "، أي
انه لا يمتثل تماما ً لقوانين القصة القصيرة بفعل افتقاره لما ينبغي للسرد
أن يتوافر عليه من حدث وشخصيات وزمان ومكان وعقدة وحل مع ان هناك من يرى
خلاف ذلك.
ليس هناك ما يُتفق عليه حول حجم القصة القصيرة جدا ً فقد
يتراوح بين بضع كلمات وبضع مئات منها. وليس هذا المصطلح بعيدا ً عن أدبنا
القصصي فهو يمكن أن يكون رديفا ً لمصطلح " أقصوصة " الذي شاع في القصص
العربي وقرأنا كثيرا ً من نماذجه قبل أن يشيع مصطلح " القصة القصيرة جدا ً "
عندنا.
لقد وجدت نفسي أسترسل في هذا التمهيد وبين يدي مجموعة " ثورة
عقارب الساعة " ــ قصص قصيرة جدا ً ــ للقاص الشاب نهار حسب الله (ولد في
بغداد عام 1989) والذي فاجأني في تحّوله أو تنويعه الإبداعي بالأحرى ، فقد
كنت تابعته قبل بضع سنوات وهو يحث الخطى على طريق التصميم الطباعي والصحفي
وقد اطلعت على نماذج له في هذا المجال منها أغلفة كتب صدرت، وإذا بي أقرأ
له ، وهو في سن مبكرة، قصصا ًقصيرة منشورة في صحف ومجلات رصينة (مثل الآداب
البيروتية) لا تتساهل في النشر، ثم تأتي مجموعته هذه لتبشر بميلاد قاص يعد
بالكثير إذا ما واصل سعيه لتطوير موهبته الإبداعية بتأنٍ وثقة.
تقع
المجموعة في مئة وستين صفحة من القطع المتوسط وقد صدرت عام 2011 عن دار
سندباد للنشر والإعلام في القاهرة وهي تحمل الرقم 125 من سلسلة إصدارات هذه
الدار في مشروع رائد يحتسب لها لاسيما انها تهتم بأدباء واعدين ربما لم
ينشر بعضهم كتابا ًمن قبل . يشير الفهرست إلى عناوين سبع وسبعين قصة، غير
ان هذا العدد يتجاوز المائة والثلاثين ــ إذا ما أضفنا إليها النصوص التي
جاءت تحت عنوان "كلمات قصصية قصيرة جدا ً"، إلى جانب كونه يدرج أحيانا ً
أكثر من قصة تحت عنوان واحد وثمة عناوين فرعية مثل "قصص الدقيقة الواحدة".
يهدي
القاص المجموعة إلى " الغائب الحاضر أزل" ، وأزل هو أخوه الذي كان قد
أختُطف وعُثر على قبره بعد بضع سنوات مغدورا ً برصاصة في الرأس ، ولا عجب
أن يترك هذا الحادث المأساوي بصماته على قاص مرهف الحس مثله فينعكس على ما
يكتب. إنه يقول في تمهيد تحت عنوان ( بداية ): " لم أجد في قصصي القصيرة
جدا ً سوى الهموم المتراكمة في مجتمع ينوء بثقل الظلم... وهو الأمر الذي
حفزني على محاولة التعبير عن الانفعالات والابتسامات المرة في العيون التي
تنزف دما ً لتكون رسالتي. ما ستقرأونه واقع أشبه بالخيال لشعب كُتب عليه
العذاب مثلما كُتب عليه أن يقدم للعالم هذه الصور المليئة بالفجيعة
والدماء." ومن هذا الواقع يستلهم القاص نصوصه، وهو واقع يحار الكاتب ــ أي
كاتب ــ عند أي تفصيل يتوقف بفعل ازدحامه بما يستفز وعيه ومشاعره. لذلك
تتواتر الإشارة الى الموت والقتل والتفجيرات والمواجع في نصوصه : عن المرأة
التي تنتظر مكالمة من زوجها لتكتشف ان المكالمة التي تنتظرها جاءت من
المستشفى تخبرها بأن زوجها قُتل برصاصة طائشة استقرت في رأسه .( قصة "
المكالمة الأخيرة " ) ، وعن الصبي الحمال يوسف الذي تمزق سيارة مفخخة جسده (
قصة " يوسف كان هنا " ) ، وتتوالى أغلب القصص على هذا النسق ، وتظل رائحة
الموت لصيقة حتى بعناوين عدد من القصص مثل " فرح ميت " و " مذكرات ميت " و "
الموت .. فن تشكيلي " و " " صديق الموت " وغيرها .
ويبدو ان القاص
محكوم بسلطة الزمن ، واقع تحت سطوتها ، فجعله ذلك يخصص لها أكثر من قصة
منها " ثورة عقارب الساعة " التي تحمل المجموعة عنوانها وتستمد مادتها من
الواقع الممزوج بالخيال .
وعلى الرغم من ان الجو المأساوي يخيم على
العديد من القصص فإن قصصا ً أخرى لا تخلو من روح التفاؤل والأمل بالمستقبل ،
ومنها ما يتسم بالسخرية وهو ما تمليه عليه كوميديا الحياة التي يعيش
تفاصيلها .
إن نصوص هذه المجموعة تتوزع بين التكثيف والاسترسال إلى حد
الترهل أحيانا ً ولابد من ان القاص سيتجاوز في نصوصه القادمة ما شاب هذه
المجموعة التي يقول ناشرها : " انها تتناول المجتمع العراقي بمزيج من
الواقع المر والخيال الساخر ، فضلا ً على نبذها للتطرف الديني والمجتمعي
ووقوفها على الضد من لغة الدم .... وهكذا نجح الكاتب في أن يلتقط أشد
اللوحات المفعمة بالإنسانية وتصويرها تصويرا ًصادقا ً معبّرا ً عن الألم
والجزع ، عن عالم الانكسارات الذي يغتال أحلام الكبار والصغار معا ً " .

السرد الفوتوغرافي في قصص نهار حسب الله

بقلم/ كريم عباس ألساعدي

القاص الشاب نهار حسب الله يؤسس لتقنية قص لا نقول أنها تجديد او تحديث
في اليات السرد بقدر ما نقول انها بليغة في طريقة الاكتناز والاختصار
الحكائي فهو يلتقط لنا صورا من الحياة عن شاكلة سردية جميلة في التصوير
والتشبيه والرمزية والحكم في ختام قصصه القصيرة جدا التي ينشرها في الصحف
وفي مواقع الانترنت .وهذا المجال السردي الذي يشتغل عليه نهار حسب الله هو
التقاط صوري لمثبطات ومقويات الحياة فهو يجوب الحياة كالمصور الذي يجوب
الشوارع من اجل التقاط صور مقابل مال ولكن نهار يجوب سرديته المضمخة
بالشعرية لكي يلتقط لنا صورة يوقف معها زمن الحياة عن طريق سردية جميلة
يعالج فيها موضوعات شتى مختلفة وبطريقة مختزلة جدا.
فهو يقول في (أمل
والشيطان) (أمل صبية عراقية لم تتجاوز ربيعها الثالث عشر.. اكتسح عائلتها
شيطان السيارات الملغومة، دهمهم وحول نومهم في ساعات الليل الهادئ الى نوم
أزلي خالد، إلا انه ابقاها على قيد الحياة وحيدة في عالم خرب هرم تكسوه
شظايا الدمار اللامنتهي).
هذه الصورة في مخيلتي كم رايت صورة لطفلة
تقبع في باب دار مهدم وقد تجمعت الانقاض من حوله ووسائل الاعلام التي راحت
تنعى عائلتها التي بددتها هاونات القصف ولان نهار يتحسس ذلك فقد منحنا صورة
فوتوغرافية في مدخلية سرديته لقصته هذه .
ويضيف (لكنها وبعد عناء
طويل، جمعت أشلاء اخوتها السبع.. جمعتهم كالدمى) ويستمر لتتمة المشهد ويكمل
مدخليته السردية بما يلاحق الآني هو ان الفتاة المراهقة بدأت تبحث عن
الاشلاء وكأني أراها تمرر قدميها بين الأنقاض لكي تبحث عن أي شيء يخص
أخوتها أي شيء يحمل لها بصيص امل ان ثمة احد إخوتها يتحرك انها صورة مأسوية
تلتقطها عدسة نهار السردية في قصته هذه وفي قصته (لغة الحوار) (طرح المعلم
على تلاميذه مقولة لشخص لم يكن معروفاً لديهم، كان يدعى (جون سكولي) إلا
ان حكمته أثارت اهتمام الجميع (أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هو صناعته).
يفتح قصته بهذه المقدمة التي يتراءى لقارئها ان ثمة مكانية فيها (صف) يقف
فيه معلم ويحاور تلاميذه وهكذا نهار يسرد لنا الصورة بسرديته المعتادة
.ويفصح عن حالة الشخصية لحظة التكلم.
ويقول في قصته (زهرة قلب)
(اجتمعت
بحبيبها بعد فراق طويل، فراق يحمل في طياته تعابير الحزن والحنين الى
الماضي، خصوصاً بعد عمليات الهجرة القسرية التي اجتاحت ذويها.)
ولكي
نحول سرديته الى صورة فوتوغرافية مجسمة نشاهد فتاة تجلس مع حبيبها وقد
انهكتهم سنوات الفراق في احدى المطاعم او احدى المتنزهات ولكنه هذه المرة
يغيب المكان لان ثمة زمانية مسيطرة على الحدث وهذه لفتة رائعة من سارد يعرف
كيف يوظف شخوصه داخل قصصه.
وفي قصته (منجز وطني)
(بعد ان هبت
بوجهها ريح عاتية، أحكمت الابواب أقفالها تجاهها، وضربت بها امواج البحار
بكل قسوة، وتعاون القدر والزمن على تكوين اخطائها.حُكم عليها بقانون التحول
من شابة رصينة متكاملة من اكبر عائلات المدينة، إلى انسانة منحدرة تدور
حولها الشبهات.)
في قصته هذه يمنح الشخصية بعدا معنويا لا يمكن تحسسه
موضوعيا الا بتجميع الشواهد عليه كل تلك الشواهد التي ساقها في النص تمنحنا
صورة نهائية عن انسانة منحدرة تدور حولها الشبهات ولكن هل هي كذلك في
الاصل؟ ان ثمة من صيرها الى هذه الحالة؟ سرديته في القصة تبين ذلك بوضوح
تام جدا .اذ يقول (تاهت ملامحها بين أحضان الرجال وشققهم المفروشة.. انسانة
فقدت رأفة وإنسانية المجتمع.. وحولت جسدها المستور المتدفق بالانوثة، الى
سلعة رخيصة مستهلكة.. لا يرغب بها إلا المضطر)
وهنا تأخذ القصة بعدا
رمزيا اخر يحوله السارد من حالة خاصة الى قضية عامة برمزية عالية يتضح من
خلالها مراد السارد في بنية قصته التي يسوقها بسرديه عالية ويضع الرموز
التي تكشف عن الدلالة في بنية القصة نفسها .ولكن الصورة الخارجية للبناء
تتضح من خلالها فتاة رخيصة تمارس كل شيء بلا خوف وبدء تحرر جسدها يفقدها
كرامتها ولكن كرامتها هي وحسب وليس كرامة اخرى .وهكذا تجد لغة السرد عالية
وذو عناية لدى القاص الشاب نهار حسب الله وهذا ما جعله يتمتع بقدرة عالية
في سوق نهايات قصصه وسردياته الجميلة التي يكتب فيها وطريقته في الاختصار
والومضة السردية التي تمر كضوء الصورة الفوتوغرافية ولكنها محملة بشخوص
وزمان وحالة وموضوعة يريد من خلالها القاص ان يوظف سرديته في قصصه المختلفة
.