* الأَيَّامُ العربيَّةُ الحاليَّةُ كشفتْ سلبيَّةَ وعُريَ ووهمَ معظمِ المثقَّفينَ العَرب!
* فِلسطيني أَنا هيَ كلُّ فِلسطينَ لأَنَّها هكذَا.
* المثقَّفونَ الفلسطينيُّونَ العائدونَ نظَروا إِلى المثقَّفينَ المقيمينَ كأَنَّهم هنودٌ حمرٌ.
* الشِّعرُ الفِلسطينيُّ مثلَ أَيِّ شعرٍ؛ لهُ مَا لهُ وعليهِ مَا عليهِ.
* هناكَ فرقٌ كبيرٌ جدًّا بينَ الغوصِ في الشِّعرِ والغرقِ فيه.
* مفهومُ الحداثةِ فِي الأَدبِ لاَ يتعلَّقُ بمعاصرتهِ فقطْ.
* "بطلُ" القصيدةِ هوَ اللُّغةُ، كمَا اللَّونُ فِي اللَّوحةِ، وكمَا النَّغمةُ في الموسيقَى.
* الجمالُ هوَ الإِتقانُ وبالعكسِ.
* التَّرجمةَ هيَ توأَمُ نصٍّ آخرَ، ولكنْ كلُّ واحدٍ أُنجِبَ مِن أَمٍّ.
* الشِّعرُ الجميلُ لاَ يزالُ يتواترُ حتَّى هذهِ اللَّحظةِ.
قليلة، أو ر
بما
كانت نادرة، تلك المرات التي يشعر فيها الصحفي أنه دخل، أو أدخل، في عوالم
الشخص الذي يحاوره.. بل وأنه أصبح جزءًا من "طقوس" هذه الشخصية.. وكأنه في
حضرة "شيخ طريقة" في عشقه للشعر.. عشقه للغة.. عشقه للأدب.. عشقه لإنسانية
الإنسان..
محمد حلمي الريشة.. الشاعر.. الباحث.. المترجم.. والإنسان
الملتزم بإنسانيته قبل هذا وذاك.. لا يمهل محاوره حتى يجلس في "حضرته"..
ليدخله في "عوالمه".. و"طقوسه".. فهو يبدأ في "أخذك" إليها وأنت تحضر
للقاء.. وأنت تقرأ شعره.. ونثره.. وما يطرحه من أفكار هنا وهناك أثناء
مداخلاته أو حواراته الغنية.. يستوقفك طغيان الهم الفكري والفلسفي في كل ما
يكتب أو يقول.. ويمتعك تماهي قصائده ما بين الذاتي والوطني.. تقلقك
تساؤلاته المبثوثة بين السطور.. عن الكون.. والحياة.. والحب.. والوطن...
فأنت الصحفي، لا بد أن "تتحضر" روحيًّا.. وفكريًّا لإجراء الحوار.. ولا بد
أن تبقى قلقًا.. حتى تحين ساعة اللقاء.. وربما يبقى القلق ملازمًا حتى
النهاية حين تشعر بأنك أنجزت فعلاً حوارًا مختلفًا.. يشبه صاحبه..
* هل يمكن العودة إلى البدايات والمؤثرات التي لعبت دورًا في توجهك إلى الشعر تحديدًا؟
-
لاَ يمكنُ التَّوجُّهُ إِلى الشِّعرِ (أَو أَيِّ نوعٍ جماليٍّ آخرَ)
برغبةٍ، أَو إِرادةٍ، أَو حتَّى بعزيمةٍ. {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ
وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}. هذهِ مسأَلةٌ بديهةٌ فِي عمومِ الإِبداعِ.
المسأَلةُ تعودُ إِلى وجودِ البذرةِ البرِّيَّةِ (الموهبةِ) فِي النَّفسِ،
والَّتي تشقُّ طريقَها، بدايةً، منْ صلصالِ القلبِ، باندفاعٍ مفاجئٍ، أَو
ببطءٍ شبْهِ محسوسٍ، فِي لحظةٍ زمكانيَّةٍ، ثمَّ تنتظرُ العنايةَ
الشَّخصيَّةَ المغايرةَ بِها، وإِنْ لَمْ تجدْها، فإِنَّها سرعانَ مَا
تذبلُ علَى ذاتِها، وتهجرُ القلبَ بعيدًا عنهُ، آسفةً أَنَّها لَمْ ترَ
حواسًّا تَعتني بِها.
أَيضًا، إِنْ تمَّ إِنجاحُ الموهبةِ فِي لحظةٍ/
حالةٍ/ كينونةٍ مَا، فإِنَّ هذَا غيرُ كافٍ مطلقًا، إِذْ لاَ بدَّ منْ مَا
أُعرِّفهُ بِـ "الشَّغفِ والمثابرةِ"؛ حيثُ المتابَعةُ، والاستمرارُ،
والتَّزاوجُ الكيميائيُّ إِلى مَا بعدَ التَّماهي التَّامِّ.
لستُ
أُقدِّمُ مدخلاً، أَو أَصوغُ ديباجةً للجوابِ، ولكنْ لأُشيرَ إِلى هذهِ
المسأَلةِ، لأَنَّكَ لاَ تستطيعُ أَنْ تجعلَ نفسكَ شاعرًا، مثلاً، بقرارٍ
ذاتيٍّ محضٍ، لِتتباهَى أَنتَ بكَ، مراهِقًا، أَمامَ محبوبةٍ مراهِقةٍ،
لأَنِّي وجدتُ، ولاَ أَزالُ أَجدُ، هذَا الاختراعَ (الشَّاعرَ)، حيثُ تسمحُ
مواقعُ الشَّبكةِ العالميَّةِ لهُ بالظُّهورِ، فيخالُ نفسَهُ كمَا لَو
أَنَّهُ علَى "سرجِ سابحٍ"، والَّذي يَهوي بهِ، علَى عجلٍ، لأَنَّهُ فاقدُ
الموهبةِ، أَو فقيرُها، إِنْ لَمْ يكنْ عديمَها.
بعدَ اجتيازِ تلكَ
المسأَلةِ (التَّوجُّهِ إِلى الشِّعرِ تحديدًا!)، فإِنَني أَرى أَنَّ
الحديثَ عنِ المؤثِّراتِ الَّتي ساهمتْ فِي إِنضاجِ الشَّاعرِ فيَّ، هوَ
الأَدقُّ جوابًا لسؤالِكَ، والَّتي أُلخِّصها فِي القراءةِ العميقةِ فِي
شتَّى مشاربِ الثَّقافةِ العربيَّةِ والأَجنبيَّةِ، قديمِها وحديثِها، حينَ
شعرتُ بمشروعِ الشَّاعرِ فيَّ، فِي صدفةٍ/ فجأْةٍ/ حالةٍ. تلكَ القراءاتُ
كانتْ تفتِّحُ الموهبةَ، وتُثري القاموسَ اللُّغويَّ الشَّخصيَّ، وتعبِّئُ
الذَّاكرةَ، وتلقِّحُ المخيلةَ.
كنتُ أَقرأُ (امرئَ القيسِ) إِلى جانبِ
(وليم شيكسبير)، و(أَبا حيَّان التَّوحيدي) إِلى جانبِ (آرثر شُوبنهاور)،
و(ابنَ خُلدون) إِلى جانب (ويل ديورانت)، و(أَبا تمَّام) إِلى جانبِ (آرثر
رامبو)، و(سَلامة موسى) إِلى جانبِ (جَان بُول سَارتر)، و(بدر شاكر
السيَّاب) إِلى جانبِ (ت. س. إِليوت)، و(نجيب سرور) إِلى جانبِ (راينر
ماريا ريلكه). هذه أَمثلةٌ ممَّا تبيحهُ الذَّاكرةُ الآنَ، وطبعًا الشِّعرَ
الفلسطينيَّ آنذاكَ.
كانَ أَن صرختُ بهدوءٍ منْ داخِلي وإِلى داخِلي
ذاتَ يومٍ بعيدٍ: "توقَّفي أَيَّتها المطابعُ عنْ رضابكِ العذبِ، فليسَ
لديهِ وقتٌ إِضافيٌّ لالتهامِ مَا تلفظينهُ يوميًّا، بلْ.. إِنَّهُ يقتربُ
منْ حافَّةِ عدمِ القدرةِ علَى شراءِ ثمراتكِ الجميلةِ قبلَ شراءِ ثمراتِ
أَطفالهِ."
القراءاتُ كانتْ مؤثِّراتٍ ثقافيَّةً متوازيةً ومتعامدةً،
ومنسجمةً ومتشاكسةً، وثابتةً وتأْويليَّةً، أَهَّلتني لقصيدةٍ خاصَّةٍ بِي
منذُ بداياتِ التَّجربةِ الشِّعريَّةِ، إِذ لَمْ أَخضعْ آنَها، بوعيٍ
وبدونِ وعيٍ أَكبرَ، لقصيدةِ القضيَّةِ/ الضَّرورةِ؛ تلكَ القصيدةِ
اللاَّشعر، حيثُ صوتُ الخطابةِ السِّياسيَّةِ أَعلى منْ صوتِ القصيدةِ
الجماليَّةِ.
* من يقرأ شعر محمد حلمي الريشة أو يجلس في "حضرته"، يشعر بأنه يدخل في
"طقس صوفي" لعاشق أو لـ"شيخ طريقة"، وهو ما يدفعني لسؤالك عن ماهية الشعر
بالنسبة إليك، وبالتالي كيف يكون الشعر شعرًا؟
- أَعجَبتني، بلْ
وجعلَتني أَبتسمُ "شيخُ طريقةٍ". أَعجَبتني لأَنَّكَ وضعتَ عينكَ علَى
حقيقةٍ مُوجِبَةٍ؛ وهيَ أَنَّ علَى كلِّ شاعرٍ أَن يتفرَّدَ بأَناهُ
الشِّاعرةِ أَيَّما تفرُّدٍ. إِنَّ نحلةً (شَاعر) تمرُّ علَى أَزهار
كثيرةٍ، تأْتي بنَتاجٍ خاصٍّ بِها (شِعر) يختلفُ اختلافًا كلِّيًا عنْ
رحيقِ الأَزهارِ فِي الشَّكلِ والتَّكوينِ (شِعر الآخرينَ). إِذَا نحلةٌ
تفعلُ هذَا، فكيفَ لاَ يكونُ كلُّ شاعرٍ "شيخَ طريقةٍ/ طريقتهِ"؟! وإلاَّ
فلْيدَعِ الشِّعرَ، فيرتاحُ منَ التَّكرارِ بنسْخِ النَّسخِ، ويرِيحُ
القارئَ حتَّى منَ القراءَةِ الأُولى والأَخيرةِ.
ثمَّ.. أَتذْكرُ
المرءَ الَّذي قدَّم لأَبي تمَّام آنيةً مجوَّفةً طالبًا منهُ أَن يملأَها
لهُ بماءِ الحياةِ؟ وتذْكرُ فِي الآنِ ذاتهِ ردَّ/ شرْطَ أَبي تمَّام حينَ
قالَ لهُ بأَنَّه سيفعلُ حينَ يأْتيهِ بريشةٍ منْ جناحِ الذُّلِّ؟!
وهذَا الشَّاعرُ (و. س. مِيرْوِين) الَّذي كتبَ فِي مطلعِ قصيدةٍ لهُ:
أَنَا لاَ أَفْهَمُ العَالمَ، يَا أَبِي.
مِنْ جَانِبِ بِرْكَةِ الطَّاحُونَةِ عِنْدَ نِهَايَةِ الحَدِيقَةِ
هُنَاكَ رَجُلٌ، الَّذِي يَتَسَكَّعُ، يَسْتَمِعُ
إِلَى الدُّولاَبِ الدَّوَارِ فِي النَّبْعِ، وَلكِنْ
لاَ يُوجَدُ دُولاَبٌ يَدُورُ هُنَاكَ.
يَا
إِلهي.. أَتسأَلني، بعدُ، عنْ ماهيَّةِ الشِّعرِ وكيفَ يكونُ الشِّعرُ
شعرًا؟! سامحكَ اللهُ! هلْ تعتقدُ أَنَّ أَحدًا يستطيعُ تحديدَ ماهيَّةِ
الشِّعرِ وكيفَ يكونُ الشِّعرُ شعرًا؟
* أعود إلى "شيخ الطريقة" لأسأل من جديد عن رأيه في ظاهرة استلهام معظم الأصوات الشعرية الجديدة من التراث الصوفي؟
-
هذَا شيءٌ جِدُّ جميلٍ، وهوَ عملٌ مهمٌّ فعلاً فِي الفعلِ الشِّعريِّ
المتجدِّدِ، ففِي العودةِ إِلى ينابيعِ الإِبداعِ، أَيًّا كانَ وليسَ
التُّراثُ الصُّوفيُّ فحَسْب، يَعني الغوصَ لاكتشافِه أَو إِعادةِ
اكتشافِه، واستخراجهِ أَو إِعادةِ استخراجهِ. هذهِ العمليَّةُ تُثري
القصيدةَ، وتصقلهُا، وتَثقُفُها، فِي سبيلِ شعرٍ مغايرٍ كلَّ شعرٍ.
المهمُّ
فِي هذَا الشَّأْنِ؛ أَن يُدرِكوا الفرقَ الكبيرَ بينَ الغوصِ والغرقِ
فيهِ، وأَنَّه لاَ بدُّ منْ إِتقانِ الغوصِ فِي مكنوناتهِ أَوَّلاً،
وإِلاَّ فإِنَّ الغرقَ أَمرٌ محتمٌ بدونِ شكٍّ، ليسَ غرقُ الشَّاعرِ فقطْ،
بلْ إِغراقُ نصَّهِ فِي متاهةٍ هوَ نفسهُ تائهٌ فِيها.
وأَقولُ لهُم ممَّا قلتهُ فِي خمَسِينيَ الشِّعريِّ:
وِسَادَةٌ بِسُمْكِ بَطْنِ فَرَاشَةٍ
أَرَقُّ مِنْ وِسَادَةٍ مَنْفُوخَةٍ وَهْمًا..
هكَذَا عَلَّمَنِي الجَاهِلِيُّونَ الجُدُدُ، أَيضًا!
* القارئ لقصائدك يلحظ المزاوجة بين التراث والمعاصرة فيها ببساطة،
والسؤال: كيف تفهم هذه الثنائية، وإلى أي مدى يمكن أن يساهم التراث الشعري
في خلق صيغ جديدة، وهل تتطور الصيغ فعلاً مع تطور العصر؟
- قلتُ ذاتَ
مداخلةٍ حواريَّةٍ: لاَ أُؤمنُ بقطعِ الحبلِ السُّرِّيِّ بينَ الماضِي
والحاضرِ، فالحاضرُ لاَ يزالُ يتشكَّلُ فِينا وبِنا، وقطعُ الحبلِ يَعني
توقُّفُ الإِمداداتِ الحيويَّةِ للمُتشَكَّلِ. وشِئْنا أَم أَبينا، فنحنُ
نرثُ الصِّفاتِ الوراثيَّةَ عمَّنْ سبقَنا، وأَيَّة محاولةٍ للفرارِ، أَو
الفصلِ، هيَ حركةٌ عقيمةٌ تأْتي بجثَّةِ التَّائهِ.
وعدَا عنْ هذَا،
فإِنَّ لدَيْنا الكثيرَ منَ الموروثِ الحضاريِّ بثقافاتِه العاليةِ، لاَ
يزالُ مَعِينًا عذبًا لَمْ تعكِّرْهُ ثقافاتُ الآخرينَ. في الوقتِ نفسهِ،
أَرى ثقافاتِ الآخرينَ تساهمُ، إِلى حدٍّ يناسبُ معتقداتِنا، فِي إِغناءِ
حضارتِنا والحضارةِ الجمعيِّةِ الإِنسانيَّةِ.
لهذَا أَعتني أَن يُقيمَ
النَّصُّ تفاعلاً معَ نصوصٍ أُخرى لإِثرائهِ كنصٍّ إِنسانيٍّ محدَثٍ، يذيبُ
حدَّةَ العداءِ معَ الماضِي منْ منظورِ الحداثةِ وما بعدَها.
* يرى بعض النقاد والشعراء والقراء أيضًا، أن الشعر الحديث قد وقع في
مأزق، والدليل على ذلك التحول إلى قصيدة النثر.. ترى هل صدقت نبوءة نازك
الملائكة التي تقول بإفلاس الشعر الحديث، وبضرورة العودة إلى القصيدة
العمودية؟
- لاَ يجبُ النَّظرُ إِلى الشِّعرِ علَى أَنَّهُ كيانٌ
فرديٌّ، أَو صورةٌ ثابتةٌ، أَو حالةٌ واحدةٌ، أَو صياغةٌ متماسكةٌ...
الشِّعرُ غيرُ هذَا وذاكَ، وإِلاَّ لكانَ فِي الوجودِ شاعرٌ واحدٌ على
تَعدُّدهِ، وقصيدةٌ واحدةٌ على تَعدُّدِها.
لذَا أَقولُ: إِنَّ
"نبوءةَ" الشَّاعرةِ نازك الملائكة، هيَ "نبوءةٌ" مفلسةٌ، لأَنَّ الشِّعرَ
الحديثَ والمعاصرَ (أَعني الإِبداعيَّ منهُ)، ليسَ فِي مأْزقٍ، بدليلِ
أَنَّ الشِّعرَ الجميلَ لاَ يزالُ يتواترُ حتَّى هذهِ اللَّحظةِ، والَّذي
يدَّعي مأْزقيَّتهُ منْ نقَّاد وشعراءَ وقرَّاءَ، إِنَّما يرونَ بعينِ
واحدةٍ غيرِ محايدةٍ، وباتِّجاهٍ واحدٍ مستقيمٍ، إِذْ ليسَ الشِّعرُ كلُّهُ
كائنًا جماليًّا واحدًا، لأَنَّ منابعَهُ وأَهواءَهُ وميولَهُ مختلفةٌ،
ولأَنَّهُ متعدِّدُ التَّكوينِ، تمامًا كمَا الكائناتُ الأُخرى، قُلِ
الإِنسان مثلاً، هلْ كلُّهُ علَى الشَّاكلةِ نفسِها علَى الرَّغمِ منْ
أَنَه كائنٌ محدَّدٌ؟
يقولُ (آدم كيرش): "أَغلبُ الشِّعرِ المكتوبِ فِي
أَيَّةِ لحظةٍ منَ الزَّمنِ شعرٌ رديءٌ، وجميعُ الشِّعرِ المكتوبِ فِي
أَيَّةِ لحظةٍ منَ الزَّمنِ شعرٌ جديدٌ، وهاتانِ الحقيقتانِ، معًا، تجعلانِ
الأَمرَ يبدُو كمَا لَو أَنَّ الشِّعرَ دائمًا فِي انحدارٍ."
السُّؤَالُ
المهمُّ الآنَ: هلِ التَّحوُّلُ إِلى "القصيدةِ بالنَّثرِ" دليلَ مأْزقٍ،
أَم هوَ تطورٌ طبيعيٌّ؟ والسُّؤالُ الآخرُ: لماذَا الدَّعوةُ إِلى العودةِ
إِلى "القصيدةِ العموديَّةِ"، وربَّما إِلى "القصيدةِ بالتَّفعيلةِ"؟ أَنا
رأَيتُ/ أَرى أَنَّ كثيرًا منَ القصائدِ العموديَّةِ، منذُ العصرِ
الجاهليِّ وإِلى الآنَ، هوَ نظمٌ أَكثر منْ كونهِ شعرًا، كذلكَ الضَّعفُ
الَّذي فِي كثيرٍ منَ القصائدِ بالتَّفعيلةِ، والقصائدِ بالنَّثرِ، أَيضًا.
القصيدةُ لاَ تكتسبُ صفتَها الشِّعريَّةَ/ الإِبداعيَّةَ منَ الشِّكلِ/
الإِناءِ، بلْ منْ درجةِ شعريِّتِها، أَيْ: منْ كمِّ الشِّعرِ فِي
القصيدةِ، مهمَا كانَ شكلُ إِنائِها، لأَنَّها هيَ وعاءٌ للشِّعرِ.
* بعد هذا.. وذاك، هل يحق لنا أن نسأل: لماذا لم يحسم موضوع الحداثة في الشعر أو في الأدب عمومًا بين مثقفينا حتى الآن؟
-
لنْ يُحسمَ موضوعُ الحداثةِ فِي الشِّعرِ أَو فِي عمومِ الأَدبِ، لأَنَّ
مسأَلةَ الحداثةِ مسأَلةٌ نسبيَّةٌ وحيويَّةٌ فِي آن، فهيَ فعلٌ حركيٌّ
دائمٌ، لاَ يمكِنْ تثبيتهُ لتصويرهِ وتحديدِ إِطارٍ لصورتهِ. كذلكَ فإِنَّ
مفهومَ الحداثةِ فِي الأَدبِ، مِن وجهةِ نَظري، ليسَ مفهومًا يتعلَّقُ
بمعاصرتهِ، فهناكَ قصائدُ في العصرِ الجاهليِّ أَكثر حداثةً منَ العصورِ
الَّتي تلَتهُ، وإِلى الآنَ. الموضوعةُ فِي الإِبداعِ، وليسَ فِي
الزَّمنيَّةِ.
تحضرُني، فِي هذَا السِّياقِ، مقولةٌ للشَّاعرِ
(أُوكتافيو باث): "كنتُ أَكتبُ، فِي شبابِي، دونَ أَن أَتساءَلَ لماذَا؟
كنتُ أَبحثُ عنْ بابِ الدُّخولِ إِلى الحاضرِ: أَردتُ أَن أَكونَ ابنَ
زمنِي وعصرِي، حتَّى لقدْ أَصبحَ هاجِسي فيمَا بعدُ: أَن أَكونَ شاعرًا
محدثًا. وهكذا بدأَ بحثِي عنِ الحداثةِ. ولكن، مَا هيَ الحداثةُ؟ اكتشفتُ
أَنَّها سرابٌ، ...، ليستِ الحداثةُ خارجَ أَنفسِنا، بلْ هيَ فِي
دواخلِنا."
* قلّما نلحظ تلك الأناقة والكبرياء وتلك العناية في استخدام مفردات
اللغة، كما في شعرك، فهل لك أن تحدثني عن تلك العلاقة التي تربطك باللغة
العربية؟
- يقالُ: إِنَّ للرّوايةِ، أَو القصَّةِ، أَو المسرحيَّةِ،
بطلاً؛ قدْ يكونُ شخصًا، أَو كائنًا، أَو زمانًا، أَو مكانًا، أَو ...،
وأَنا أَتساءَلُ: أَليسَ للقصيدةِ "بطلٌ" كذلكَ؟ وأُجيبُ: نعمْ؛ هوَ
اللُّغةُ؛ "بطلُ" القصيدةِ هوَ اللُّغةُ، كمَا اللَّونُ فِي اللَّوحةِ،
وكمَا النَّغمةُ في الموسيقَى.
الشَّاعرُ المبدعُ هوَ الَّذي يتقنُ فنَّ
تحريكِ هذَا "البطلِ" اللُغويِّ علَى مسرحِ القصيدةِ مستخدمًا اللَّونَ
والنَّغمةَ والإِيقاعَ فِي آن. إِذًا نستطيعُ القولَ فِي هذَا السِّياقِ:
إِنَّ الشِّعرَ فنُّ ذاتهِ وكلُّ الفنونِ معًا.
ربَّما منْ هنَا جاءَ
وصفُكَ للُغتي الشِّعريَّةِ، كمَا جاءَ فِي سؤالِكَ، وكمَا أَفهمُ لغةَ
الشِّعرِ منْ حيثُ يجبُ أَن تكونَ، إِذ "الشِّعرُ لغةٌ فِي أَزهى صورِها.
الشِّعرُ حليبُ نهدِ اللُّغةٍ." كمَا يقولُ (روبرت كراوفورد).
ثَمَّ
علاقةُ عشقٍ حميمٍ بَيني واللُّغةِ العربيَّةِ. هذهِ العلاقةُ لَمْ تنشأْ
منْ قدسيَّةِ هذهِ اللُّغةِ فقطْ، علَى اعتبارِ أَنَّها لغةُ القرآن، ولَمْ
تنشأْ منَ النَّظرةِ الأُولى علَى اعتبارِها حالةَ حبٍّ، بلْ نشأَتْ
تدريجيًّا كلَّما دخلتُ فِي مجهولاتِ الشِّعرِ قصيدةً بعدَ قصيدةٍ، وعلَى
مدارِ أَكثرَ منْ خمسٍ وثلاثينَ سنةً، فكنتُ فِي كلِّ قصيدةٍ بحاجةٍ
ماسَّةٍ إِلى رونقِها المضيءِ .
لاَ بدَّ للشَّاعرِ منْ أَن يعشقَ
لغتَهُ كيْ يقتربَ أَكثرَ منْ إِتقانِ قصيدتهِ، لأَنِّي اَفهمُ أَنَّ
الجمالَ هوَ الإِتقانُ، وبالعكسِ أَيضًا.
* شاهدنا العديد من
الفنانين التشكيليين يرسمون من وحي القصيدة، ولكن في قصيدتك، وبسبب ما تذخر
به من صور، نجدنا أقرب إلى قصيدة مستوحاة من لوحة تشكيلية؟
- أَستعيدُ
مَا قلتهُ فِي شهادةٍ لِي وبتصرُّفٍ: أَنا أَكتبُ شعرًا سمَّيتهُ "الشِّعرَ
التَّشكيليَّ"، لهذَا فإِنَّ الشَّكلَ البصريَّ فِي النَّصِّ الشِّعريِّ
لهُ علاقةُ مَهمَّةٍ جماليَّةٍ، أَيْ إِبداعيَّةٍ أَيضًا، لأَنَّهُ
متعلِّقٌ بالصُّورِ، فهوَ كتابةٌ بالصُّورِ، إِذ ثَمَّ علاقةٌ وطيدةٌ بينَ
الشِّعرِ والرَّسمِ التَّشكيليِّ، خصوصًا فِي الشِّعرِ الحداثيِّ، لهذَا
تأْتي صياغةُ التَّشكيلاتِ الفنِّيَّةِ متعلِّقةً بحركةِ/حركاتِ المقطعِ،
أَو القصيدةِ كلِّيَّةً، لأَنَّ النَّصَّ الشِّعريَّ الحداثيَّ نصٌّ
قرائيٌّ، وليسَ نصًّا سماعيًّا، وبالتَّالي مِن الصَّعبِ متابعةُ حركةِ
تشكيلاتِ الصُّورِ المُتخيَّلةِ والمُتوالدةِ والمُتناميةِ، لهذَا يَعتقدُ
الكثيرونَ أَنَّ نُصوصي الشِّعريَّةَ فِيها كثيرٌ منَ الغموضِ، معَ العِلمِ
أَنَّ لغتَها لغةُ رسمٍ، أَي لغةٌ بصريَّةٌ، بحاجةٍ إِلى قارئٍ مبدعٍ
أَيضًا، كيْ يشتغلَ علَيْها منْ حيثُ التَّأْويلِ والتَّفكيكِ، وإِعادةِ
تركيبِ النَّصِّ مُجدَّدًا، كأَنَّهُ يُعِيدُ تمثيلَ دوْرِ الشَّاعرِ،
ولكنْ بأُسلوبِه الخاصِّ.
* تلجأ لاستخدام أساليب عديدة في القصيدة، والسؤال: ما الذي يحدد شكل القصيدة عندك؟
-
مَا منْ تخطيطٍ مسبقٍ لأَيِّ شيءٍ فِي القصيدةِ. الشَّاعرُ الحقيقيُّ
يلبِّي نداءَها إِن كانَ جاهزًا لهَا، وإِنْ لاَ؛ فإِنَّها تَختفِي إِلى
حدِّ الفقدانِ النِّهائيِّ. لاَ تُكتَبُ أَيَّةُ قصيدةٍ مرَّتينِ؛ لاَ بعدَ
حضورِها وحلولِها فِي الشَّاعرِ، ولاَ بعدَ ضياعِها وفقدانِه لهَا.
هذهِ
العتبةُ تَعني أَنَّ القصيدةَ تأْتي بكلِّ محمُولاتِها، بِما فِيها
الأُسلوبُ/ الشَّكلُ الواحدُ أَو المتعدِّدُ. منْ هذَا، فإِنَّ تعدُّدَ
الأَساليبِ/ الأَشكالِ فِي قَصيدتي ليسَ مِن عملِ الشَّاعرِ فيَّ، بلْ هوَ
مِن تكوينِها الكلِّيِّ، لدرجةِ أَنَّني بِتُّ أُؤمنُ أَن دورَ الشَّاعرِ،
بوعيهِ وبلاَ وعيهِ أَكثرَ، يتركَّزَ فِي تجسيدِ القصيدةِ كشيءٍ مرئيٍّ
بحاسَّةِ البصرِ أَوَّلاً.
* قسم النقاد الشعر إلى مراحل معينة؛
شعر الستينيات، أو السبعينيات، أو الثمانينيات...، وكذلك من ناحية المضمون؛
شعر المقاومة، شعر الغزل...، كيف تنظر إلى هذه المسألة من وجهة نظر
الإبداع وليس التاريخ الشعري؟
- هذَا التَّقسيمُ عملٌ نقديٌّ بالغٌ فِي
الضِّيقِ، أَو عملٌ أَكاديميٌّ أَو تأْريخيٌّ جافٌّ جدًّا. لاَ يَعنيني
هذَا مِن وجهةِ نظرِ الإِبداعِ، تمامًا مثلمَا المجايلةُ فِي الأَدب.
أَفهمُ الإِبداعَ، فِي أَحدِ معانيهِ، أَنَّه حالةٌ متدائمةٌ، لاَ
يؤَسطَّرُ بزمانٍ ولاَ مكانٍ، وإِلاَّ لكانَ صورةً ثابتةً (فوتوغرافيَّةً)
فِي لحظةِ مَا، وفِي مكانٍ مَا، ولكانَ المصوِّرُ (الفوتوغرافيُّ) هوَ
الأَمهَرُ. لهذَا فإِنَّك تَرى أَنَّ كلَّ عملٍّ مناسباتيٍّ سرعانَ مَا
يَذوي/ ينطفئُ بعدَ خروجِه، أَو يدخلُ ضمنَ الأَعمالِ التَّقليديَّةِ
(الكلاسيكيَّةِ) فِي أَجَلٍ قصيرٍ جدًّا.
لاَ شكَّ أَنَّ الإِبداعُ مرهونٌ بروعةِ التَّفاعلِ/ التَّأَمُّلِ/ التَّأْويلِ، وليسَ بإِطارٍ وأَجلٍ مسمَّى.
* قلتَ في إحدى حواراتك إِنَّ القصيدةَ هي التي تكتبُ شاعرَها، وهذَا
يقودُ إِلى أَنَّ القصيدةَ تلدُ شاعرَها أَيضًا، .. ألا ترى معي بأن هذا
الكلام فيه بعض الكثير من الـ "تهويم الفنتازي"؟
- ولمَ لاَ؟! هلِ الـ
"تهويمُ الفنتازيُّ"، أَو "الفنتازيا" عمومًا فِي الشِّعرِ مضرَّةٌ
بصحَّتهِ مثلاً؟! أَو: هلِ ارتكابُها خطيئةٌ يُحاسَبُ علَيْها الشَّاعرُ؟!
الشِّعرُ،
بطبيعتهِ وتكوينهِ وإِبداعهِ، يجبُ أَن يأْتي/يكونَ/ يظلَّ دائمًا غيرَ
مأْلوفٍ، وموجودٍ كلَّ مرَّةٍ/ قصيدةٍ علَى غيرِ سابقتِها حتَّى منْ شاعرٍ
واحدٍ، وإِلاَّ لتحجَّرَ، وتصنَّمَ، أَو باتتْ القصيدةُ مثلَ الميِّتِ
سريريًّا (إِكلينيكيًّا)، تعيشُ علَى الأَجهزةِ النَّقديَّةِ القديمةِ، أَو
الأَكاديميَّةِ الجامدةِ، أَو سِواهما.
أَعجَبتني، كتأْكيدٍ علَى
هذَا، خاتمةَ خطبةِ الشَّاعرةِ (فيسوافا شيمبوريسكا) يومَ استلامِها جائزةِ
نوبل: "مؤَكَّدٌ، أَنَّنا فِي كلامِنا اليوميِّ، لاَ نتوقَّفُ عنْ قولِ
عباراتٍ مثلَ: "العالمُ العاديُّ"، و"الحياةُ العاديَّةُ"، و"السِّياقُ
العاديُّ للأَحداثِ"، أَمَّا فِي لغةِ الشِّعرِ، حيثُ الكلامُ يوزنُ
بالكلمةِ، فلاَ وجودَ لشيءٍ معتادٍ أَو طبيعيٍّ. لاَ حَجر كذلكَ، ولاَ
الغَيمة الَّتي تعلوهُ. لاَ يَوم كذلكَ، ولاَ اللَّيلة الَّتي تتلوهُ.
والأَهمُّ أَنَّه لاَ وجُود عادِي، لاَ وجودَ لأَيِّ كائنٍ فِي هذَا
العالمِ يمكنُ نعتُه بالعاديِّ."
* يذهب أحد النقاد إلى أن أهم ما يميز الشعر الحديث كونه لا يأبه
بالمواصفات، ولا بالأعراف، ولا بالقيم الاجتماعية والفلسفية، لا سيما بعد
نكسة حزيران (يونيو) 1967، فقد أسقط من حسابه كل القيم.. ما قولك في هذا؟
-
بعدَ الحربِ العالميَّةِ الثَّانيةِ، (لاَ أَدري لماذَا نعتُوها
بالعالميَّةِ، معَ أَنَّها حربٌ غربيَّةٌ فقطْ؟!)، ومَا حدثَ فِيها منْ
فظائعَ بشعةٍ لمْ يستطعِ العقلُ البشريُّ استيعابَها، نشأَتِ الحركةُ
السُّرياليَّةُ "مَا فوقَ الواقعيَّةِ، أَو مَا بعدَ الواقعِ" ردَّ فعلٍ
علَى هذَهِ الفظائعِ، فدخلَ المبدعُ، علَى اختلافِ وتعدُّدِ حالاتهِ، فِي
التَّعبيرِ عنْ ذاكَ الجنونِ الحربيِّ غيرِ القابلِ للتَّحمُّلِ عقليًّا،
ولا نفسيًّا، ولاَ جسديًّا، ولاَ ...!
حربُ حزيرانَ (يونيو) في العام
(1076)، هذهِ الحربُ الَّتي كانتْ مِن شِبهِ طرفٍ واحدِ هوَ المحتلُّ
الصُّهيونيُّ، ومَا نتجَ عنْها، كمَا نعرفُ، منَ احتلالِ باقِي فلسطينَ
التَّاريخيَّةِ، إِضافةَ إِلى أَجزاءَ مِن دولٍ عربيَّةٍ مجاورةٍ لهَا،
جرَّاءَ حالاتِ الخيانةِ/ الخذلانِ/ الخُنوعِ/ الخداعِ/ الخرابِ/ ...،
صدمَ، فِي العمقِ، المثقَّفَ والمفكِّرَ والشَّاعرَ والأَديبَ العربيَّ،
عدَا عنِ الشَّعبِ العربيِّ كافَّةً بجميعِ مكوَّناتهِ. هذهِ الصَّدمةُ
الشَّرسةُ هَتكتْ أَفكارَ ومعتقداتِ وثَوابتِ المثقَّفِ العربيِّ، وكانتْ
ردَّةُ الفعلِ كُفرًا بتلكَ "الثَّوابتِ"، والَّتي أَنعتُها بِـ
"الاتِّباعِ المقدَّسِ"، أَو "الوهمِ الوطنيِّ"، أَو "الخندقِ المثقوبِ"،
وغيرِها منَ النُّعوتِ، وانعكسَ ذلكَ علَى الشَّاعرِ، وبالتَّالي علَى
الشِّعرِ، حيثُ تشكَّكَ المثقَّفُ/ الشَّاعرُ بكلِّ شيءٍ (مثالُ: نزار
قبَّاني، مظفَّر النَّواب، أَحمد مطر)، حتَّى أَنَّ القِيمَ الفنِّيَّةَ
لأَشعارِهم انهارتْ، وصارتْ أَقربَ إِلى الصُّراخِ اللُّغويِّ/ العبثيِّ...
حتَّى أَنَّ الفنَّ السِّينمائيَّ هبطَ، فِي أَكثرهِ إِلى أَدنى منَ
المراتبِ الدُّنيا.
هلْ نؤكِّدُ بالقولِ أَنَّ الهزيمةَ تجرُّ وراءَها
هزيمةً، أَو تلدُ أُخرى، أَو تتكاثرُ تكاثرًا اختزاليًّا؟! يبدُو واضحًا
أَنَّ هذَا مَا حدثَ، وحدثَ مطوَّلاً وكثيرًا، ولَمْ يزلْ يحدثُ، علَى
الرَّغمِ منْ أَنَّ المثقَّفَ/ الشَّاعرَ يجبُ أَن لاَ يخضعَ للهزيمةِ،
والاستلابِ، والانكسارِ، والتَّراجعِ، فِي كلِّ شيءٍ، وفِي أَيِّ شيءٍ.
حتَّى فِي هذهِ الأَيَّامِ العربيَّةِ، فإِنَّ واقعَها ووقائعَها كشفتْ
سلبيَّةَ وعُريَ ووهمَ معظمِ المثقَّفينَ. واأَسفاه!
* تجبر القارئ على الوقوف مليًّا عند أسماء قصائدك قبل التوقف مطولاً أمام كلماتها ومعانيها.. كيف تختار اسم القصيدة؟
-
اسمُ القصيدةِ، أَو عنوانُها، لاَ يقلُّ أَهمِّيَّةً عنهَا، وحتَّى
الإِهداء. هوَ البابُ الَّذي يسحبُكَ للسَّباحةِ فالغرقِ بلاَ مَاء، أَو
النَّافذةُ الَّتي تخطفُكَ للطَّيرانِ فالتحليقِ بلاَ هَواء، أَو العتبةُ
الَّتي تشدُّكَ للولُوجِ فالسَّيرِ بلاَ أَقدام.
أَصعبُ وأَسهلُ شيءٍ
فِي القصيدةِ هوَ تسمِيتُها؛ فقدْ يأْتيكَ وأَنتَ غارقٌ فِي نسجِها، أَو
بعدَ الانتهاءِ مِنها بقليلٍ، أَو يظلُّ الاسمُ مختبئًا لفترةٍ لاَ بأْسَ
بِها وأَنتَ غيرُ قادرٍ علَى اكتشافهِ، أَو تكونُ محتارًا بينَ عدَّةِ
أَسماء.
مَا أُفضِّلهُ جماليًّا وشعريًّا، وليسَ حسمًا لموضوعِ الاسمِ،
هوَ أَن أَختارَ اسمَها مِنها، فكمَا تأْتي القصيدةُ منْ مجهولاتِها،
فإِنَّها تأْتي باسمِها معَها أَيضًا؛ ثَمَّ مَا يبرزُ لكَ فِيها مُشيرًا:
هذَا هوَ اسمِي.
* إذا انتقلنا إلى الشعر الفلسطيني، استغرب الشاعر باسم النبريص سؤالي
له عن وجود خصوصية في الشعر الفلسطيني، وعن المعايير التي تجعل من قصيدة ما
قصيدة فلسطينية.. ما رأيك أنت بعد كل ما كتبت من الشعر الفلسطيني.. وإذا
كان هناك خصوصية فما هي، وبالتالي ما هي المعايير؟
- كانتْ للشِّعرِ
الفلسطينيِّ خصوصيَّةٌ مَا، وربَّما استمرَّتْ إِلى حدودِ "أُوسلو"
الغامضةِ/ المشبوهةِ/ المشوَّهةِ! فِلسطيني أَنا هيَ كلُّ فلسطينَ؛ ليسَ
لأَنَّني شاعرٌ خارجَ سياقِ السِّياسيِّ الَّذي يميلُ إِلى الممكنِ، أَو
المتاحِ، أَو أَقلِّ الخسائرِ (أَينَ هوَ الممكنُ، أَو المتاحُ، أَو أَقلُّ
الخسائرِ؟!)، بلْ لأَنَّ فلسطينَ هيَ هكذَا، ولا يمكنُ أَن أَقبلَ
بسَخْطِها وضغطِها حتَّى إِلى أَصغرِ ممَّا نَراهُ علَيْها.
تلكَ
الخصوصيَّةُ خرَجتْ منْ عباءَةِ القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ منذُ النَّكبةِ
فِي العامِ (1948)، ومنْ ثُمَّ ظهورُ أَدبِ المقاومةِ، والَّذي غُفِرَ لهُ
فقرُ فنِّيتهِ، خصوصًا فِي الشِّعرِ، ذلكَ أَنَّه، وكمَا نعرفُ، كانَ شعرًا
مباشَرًا، بلُغةٍ خطابيَّةٍ، يَسعى إِلى التَّحريضِ الثَّوريِّ، عدَا عنْ
أَنَّهُ لمْ تكُنْ هناكَ تفاعلاتٌ ثقافيَّةٌ معَ الخارجِ العربيِّ
والعالميِّ، بحُكمِ الاحتلالِ البغيضِ، سِوى معَ أَدبِ الاتَّحادِ
السُّوفيتيِّ آنذاكَ، وبعضًا منَ الأَدبِ العربيِّ التَّقليديِّ الَّذي
كانَ الاحتلالُ يسمحُ بهِ فِيما تبقَّى منْ مدارسَ مزريةٍ، بسببِ أَفعالهِ
الشَّائنةِ.
إِنْ أَردنا الحديثَ عنْ معاييرَ معيَّنةٍ للشِّعرِ
الفلسطينيِّ قبلَ "أُوسلو"، فمَا منْ معاييرَ سِوى معيارِ شعرِ المقاومةِ،
الَّذي نعرفُ، وشعرائهِ. أَمَّا مَا بعدَهُ، فقدِ اختلفتِ المعاييرُ،
وباتتْ مثلَ معاييرِ الشِّعرِ العربيِّ عمومًا، وربَّما العالميِّ، مثلَ
اللُّغةِ، والأُسلوبِ، والمواضيعِ، و...؛ بِمعنى أَنَّه لَمْ يَعدْ
بالإِمكانِ التَّمييزُ بينَ القصيدةِ الفلسطينيَّةِ والقصيدةِ العربيَّةِ،
أَو القصائدِ فِي العالمِ عمومًا.
تخيَّلْ أَنَّ ممَّنْ كانَ يقرأُ
قصائدَ لِي، مثلاً فِي بداياتِ صدورِ جريدةِ "أَخبار الأَدبِ" وقدْ كنتُ
لاَ أُشيرُ إِلى جنسيَّتي، يظنُّ بأَنَّني شاعرٌ منَ المغربِ، أَو شاعرٌ
عربيٌّ يقيمُ فِي فَرنسا! أُوردُ هذَا للدَّلالةِ علَى أَنَّ معاييرَ
القصيدةِ الفلسطينيَّةِ باتتْ تَتماهى معَ المعاييرِ الشِّعريَّةِ ككلٍّ.
* يلحظ ابتعاد الشعراء الفلسطينيين في قصائدهم عن "هم القضية الفلسطينية" والانغماس أكثر فأكثر في الشعر الذاتي؟
-
المفترضُ الصَّحيحُ أَن تنبعَ كلُّ القصائدِ منَ الذَّاتِ الشَّاعرةِ، لاَ
أَن تُملَى علَيْها منْ جهةٍ مَا، أَو يُقحِمَ الشَّاعرُ ذاتَه فِي كتابةِ
قصيدةٍ لغرضٍ مَا.
الذَّاتُ هيَ المنبعُ، والمحورُ، والوصولُ،
والانتهاءُ لاَ الاكتمالُ. يقولُ (ستانلي كونيتز): "أَعظمُ مهامِّ
الشَّاعرِ المُلهمِ هيَ مهمَّةُ التَّخيُّلِ، وأَوَّلُ مَا عليهِ أَن
يتخيَّلهٌ وأَن يقيِّمَهُ، هوَ الذَّاتُ الَّتي بعدَ ذلكَ سوفَ تكتبُ
الشِّعرَ."
حولَ الشِّعراءِ الفلسطينيِّينَ، كمَا تشيرُ أَنتَ فِي
ملاحظتِكَ، فهذهِ ملاحظةٌ صحيحةٌ؛ ولهمْ أَسبابُهم فِي هذَا التحوُّلِ
الإِراديِّ واللاإراديِّ فِي آن؛ إِنَّ معظمَ الشِّعراءِ الفلسطينيِّينَ،
وخصوصًا المقيمينَ فِي فلسطينَ، لَمْ يكتبُوا، أَو يَنشروا، قصائدَهم
الذَّاتيَّةَ نظرًا للواقعِ الفلسطينيِّ المحتدِّ بينَ أَصحابِ الأَرضِ
الأَصليِّينَ والغزاةِ البرابرةِ، فكانَ الشَّاعرُ يشعرُ بأَنَّ هذهِ
الحالةَ لاَ تسمحُ لهُ بأَن يكتبَ، أَو ينشرَ، قصائدَ عاطفيَّةً مثلاً.
وبعدَ اختزالِ الحلمِ الفلسطينيِّ إِلى ورقةِ اتِّفاقيَّةٍ لاَ أَكثرَ،
كأَنَّها منْ طرفِ واحدٍ، انقبضَ معظمُ الشُّعراءِ علَى ذواتهِم (إِلاَّ
مَنْ لهُ مصلحةٌ شخصيَّةٌ فدارَ فِي فلكِها بعدَ أَنِ اتَّخذَ الشِّعرَ
مطيَّةً لهَا)، فصارَتِ الذَّاتُ الشَّاعرةُ تُطلِعُ كثيرًا ممَّا حوصرَ
فِيها فِي السَّابقِ؛ منَ البوحِ الثَّريِّ، إِلى النَّرجسيَّةِ الشَّرسةِ،
إِلى العشقِ المباحِ، إِلى الإِيروسيَّةِ الشَّهيِّةِ، إِلى ....، وهذَا
ساهمَ فِي نضوجِ النَّصِّ الشِّعريِّ، وارتفاعِ منسوبِ فنِّيَّتهِ ولغتهِ
المغايرةِ، وأَصبحَ نصًّا شعريًّا يحمِلُ فِي صفاتهِ نتائجَ التَّلاقحِ
الثَّقافيِّ بعدَ انفتاحهِ علَى فضاءاتِ العالمِ الأُخرى، الشِّعريَّةِ
مِنها، وغيرِ الشِّعريَّةِ.
* بالتالي، وفي ظل البحث عن ذاتية
الشاعر وعدم المباشرة، هل تظن أن الشاعر الفلسطيني ستكون له الشهرة نفسها
وسيكون لشعره الصدى والانتشار نفسهما؟
- منْ أَينَ تأْتي الشُّهرةُ
(قيلَ: إِنَّ الفضيحةَ تشهرُ أَيضًا!)، والانتشارُ، والصَّدى؟ شهرةُ
وانتشارُ وصدَى الشِّعرِ الفلسطينيِّ السَّابقِ، برَزتْ مِن موضوعتهِ
المقدَّسةِ، كمَا هوَ معروفٌ، أَكثرَ مِن قيمتهِ الإِبداعيَّةِ بكثيرٍ،
وكانَ هذَا اعترافٌ فلسطينيٌّ، أَيضًا.
كذلكَ، فإِنَّ قيمةَ الشِّعرِ
لاَ يحدِّدهُا الشِّعرُ فقطْ (معَ أَنَّ الشِّعرَ بقيمتهِ الذَّاتيَّةِ
المجرَّدةِ فقطْ)، بلْ ثَمَّ عواملُ أُخرى تلعبُ دورًا/ أَدوارًا، مثلَ
الانتماءِ الحزبيِّ، ودرجةِ الاقترابِ منَ السُّلطةِ الحاكمةِ، والآلةِ
الإِعلاميَّةِ، واستخدامِ الشَّاعرِ ناطقًا وديكورًا، وغيرِ هذَا وذاكَ.
ثَمَّ
لآلئُ ودُرَرُ وجواهرُ شعريَّةٌ لَمْ تزلْ مغطَّاةً بفعلِ فاعلينَ، ولكنْ
أَنَّى لهَا أَن تنالَ نصيبَها منَ الشُّهرةِ والانتشارِ والصَّدى؟! أَو
منَ القراءةِ علَى الأَقلِّ، طالمَا أَنَّ هنالكَ مَن يتحكَّمُ، بجهالةٍ،
بالمنابرِ والدَّوائرِ والمصائرِ الثَّقافيَّةِ؟!
قيلَ إِنَّهُ كانَ
فِي زمنِ أَبي الطَّيِّبِ المُتنبِّي أَكثرُ مِن أَلفِ شاعرٍ! وقيلَ
للشُّعراءِ الفلسطينيِّينَ إِنَّ هناكَ شاعرًا كبيرًا يشبِهُ شجرةً تُخفِي
غابةً! ربَّما مِن شدَّةِ الاقترابِ، لأَنَّ "شدَّةَ القربِ حجابٌ"
(النِّفَّريُّ).
الشِّعرُ الفلسطينيُّ الآنَ مثلَ أَيِّ شعرٍ عربيٍّ أَو
عالميٍّ؛ لهُ مَا لهُ، وعليهِ مَا عليهِ، وهذَا المقياسُ الأَجدى، لهُ
أَوَّلاً، فِي الشُّهرةِ والانتشارِ والصَّدى.
* إذًا كيف ترى الفارق بين شعر الداخل الفلسطيني وشعر الشتات، وبالتالي
هل ترى أن الشعر الفلسطيني عمومًا خلق معادلاً فنيًّا للقضية الفلسطينية؟
-
ثَمَّ قضيَّةٌ أَرى أَنَّ منَ الضَّرورةِ طرحَها، لأَنَّها ستجيبُ، بشكلٍ
مَا، عنِ السُّؤالِ: إِذا لَمْ يزلْ تقسيمُ الشِّعرِ الفلسطينيِّ بينَ
الدَّاخلِ والشَّتاتِ قائمًا علَى عدَّةِ اعتباراتٍ "نقديَّةٍ" أَبرزُها
الجغرافيَّةُ والجماليَّةُ والجهويَّةُ، فإِنِّي أَلجأُ الآنَ إِلى تقسيمِ
الشِّعراءِ الفلسطينيِّينَ بينَ شعراءَ مَا زَالوا فِي الخارجِ، وشعراءَ
عائدينَ (ضمنَ "ُوسلو" اللَّعينةِ) إِلى مَا يتمُّ قضمُهُ منْ فلسطينَ
شيئًا فشيئًا ويومًا فيومًا، وشعراءَ مقيمينَ فِي فلسطينَ التَّاريخيَّةِ
أَصلاً (الجزءُ الفلسطينيُّ المحتلُّ فِي العامِ (1948)، والجزءُ الآخرُ
المحتلُّ فِي العامِ (1967) وهوَ الضِّفَّةُ وغزَّةُ).
القضيَّةُ
المهمَّةُ؛ هيَ أَنَّ معظمَ أُولئكَ الشَّعراءِ العائدينَ (وحتَّى منْ قَبل
عودتِهم)، أَنكرُوا وجودَ شعرٍ فِي الدَّاخلِ، وعلَى استحياءٍ (بعدَ أَن
عادُوا، وصارُوا بينَنا) ذكرُوا أَسماءَ أَقلَّ منْ عددِ أَصابعِ اليدِ
الواحدةِ! ولقدَ برزَ هذَا الإِنكارُ فِي "كتابٍ فِي جريدةٍ" المتعلِّقِ
بالشِّعرِ الفلسطينيِّ، ثمَّ استمرَّ فِي مجلَّةِ "الكرملِ"، وكذلكَ فِي
إِحدى الصُّحفِ الَّتي ظهرتْ بعدَ "أُوسلو"، والَّتي يحرِّرُ الصَّفحةَ
الثَّقافيَّةَ فِيها واحدٌ منَ العائدينَ، وصارَ يركزّ، عامدًا متعمِّدًا،
علَى شعراءَ فِي بدايةِ حبوبِهم الشِّعريِّ، حتَّى أَنَّ مِنهم منْ سلَّطَ
بعضَ أَصدقائهِ، منْ غيرِ الفلسطينيَّينَ فِي الخارجِ، علَى كثيرٍ منَ
الشُّعراءِ فِي الدَّاخلِ، وكأَنَّهم هنَا همُ "الهنودُ الحمرُ" حتَّى فِي
الشِّعرِ، والأَدبِ عمومًا، ناهيكَ عنِ السِّياسةِ!
حينَ قرأْتُ شهادةً
شعريَّةً لِي، فِي إِحدى الجامعاتِ الفلسطينيَّةِ ضمنَ مؤتمرٍ عنِ الأَدب
الفلسطينيِّ فِي منتصفِ التِّسعينيَّاتِ، وكانَ مِنهم مَن شاركَ فيهِ،
وقلتُ فِيها:
"هلْ دخلَ الشَّاعرُ الكبيرُ محمود درويش "بيتَ الشِّعرِ
الفلسطينيِّ" (مجازًا طبعًا) وحيدًا، وأَغلقَ البابَ علَى نفسهِ، أَو
أُغلِقَ عليهِ بفعلِ فاعلينَ وهمْ كثرٌ: سياسيُّونَ، نقَّادٌ وأَشباهُ
نقَّادٍ أُحاديُّو الاتِّجاهِ، قرَّاءٌ بعينٍ واحدةٍ، مندُوبو الدِّعايةِ
والإِعلانِ الفلسطينيَّينَ والعربِ وغيرِهم!
صوتٌ: عذرًا يا شاعرَنا الكبيرَ، وتهمةٌ يؤكِّدها:
ليسَ
كلُّ الشِّعرِ الإِنجليزيِّ (وليم شكيسبير).. هناكَ (ت. س. إِليوت) مثلاً،
لكلِّ مِنهما مذاقٌ وطعمٌ ونكهةٌ خاصَّةٌ بهِ، حتَّى ولَو أَصبحتِ الوجبةُ
المتكرِّرةُ شهيَّةً بانتظامٍ.
صَدى: : ... ... ...".
هلْ مَا زلتَ
تريدُ أَن تعرفَ الفارقَ بينَ شعرِ الدَّاخلِ الفلسطينيِّ وشعرِ الشَّتاتِ،
بعدَ مَا هوَ أَعلاهُ؟ لاَ بأْسَ.. أَعرفُ أَنَّ الكثيرَ منَ الشُّعراءِ
والنُّقَّادِ انقسمُوا بينَ مُتسامحٍ معَ الفنِّيَّةِ الشِّعريَّةِ؛ كانَ
هذَا معَ ظهورِ الشِّعرِ المقاومِ بعدَ النكبةِ فِي العامِ (1948)، ومَن
أَكَّدَ علَيها حتَّى لَو أَنَّ الشِّعرَ متعلِّقٌ بقضيَّةٍ مقدَّسةٍ. أَنا
واحدٌ مِنهم، وذكَرتُ هذَا مرارًا مصرًّا علَيها، مثلَ قولِي: "مهمَا
نزفتْ قداسةُ الفكرةِ؛ السَّيفُ للشَّرِّ.. الطَّيفُ للشِّعرِ". لكنْ؛ لاَ
نستطيعُ نفيَ، أَو إِنكارَ، أَو إِهمالَ ذاكَ الشِّعرِ علَى فَقرِه
الفنِّيِّ، وبالتَّالي شعرائهِ، ذلكَ لأَنَّهم كانُوا يقِيمونَ فِي حديقةِ
النَّارِ، داخلَ إِطاراتٍ تحترقُ، وهواءٍ ملوَّثٍ بالموتِ فِي أَيَّةِ
لحظةٍ، حتَّى أَنَّ أَحدَ الشُّعراءِ الفلسطينيِّينَ الكبارِ قالَ عنْ شعرِ
الانتفاضةِ الأُولى إِنَّهُ مليءٌ بالحجارةِ. نعمْ.. أُوافقهُ الرَّأْيَ
فنِّيًّا وجماليًّا، ولكنْ.. لَو لمْ تكُنِ الانتفاضةُ، ولاَ الاحتلالُ
البغيضُ، ولَو حصَلوا علَى عُشرِ مَا أُوتيَ هذَا الشَّاعرُ الكبيرُ منْ
أَيِّ/ كلِّ شيءٍ، لكانَ شعرُهم مليئًا بالأَزهارِ والفراشاتِ، لاَ بالحصَى
والحجَارةِ!
* إذا انتقلنا إلى الترجمة، وهو الميدان الآخر الذي برعت فيه.. إلى أي
مدى يكون المترجم أمينًا على النص الذي يترجمه، وهل من الضروري على من
يترجم الشعر أن يكون شاعرًا؟
- أَعتقدُ أَنَّ التَّرجمةَ، هيَ توأَمُ
نصٍّ آخرَ، ولكنْ كلُّ واحدٍ أُنجِبَ مِن أَمٍّ! لأَنَّه مهمَا فعلَ/ بذلَ/
عمِلَ المترجمُ، فإِنَّه لنْ يستطيعُ الوصولَ إِلى روحِ النَّصِّ الأَصلِ؛
تلكَ الرُّوحِ الخفيَّةِ الخاصَّةِ بكلِّ نصٍّ، وخصوصًا فِي الشِّعرِ،
والَّتي لاَ يستطيعُ أَيُّ مترجمٍ احتضانَها، ومَا يدركهُ المترجمُ هوَ
جسدُ النَّصِّ. لكنَّ هذَا لاَ يَعني أَنَّ النصَّ المترجمَ يخرجُ بلاَ
روحٍ، بلْ إِنَّ المترجمَ يمنحهُ روحًا منَ اللُّغةِ الَّتي يترجمُ إِليها.
إِذًا، مسأَلةُ الأَمانةِ (الأَمانةُ ضدَّ الخيانةِ الإِيطاليَّةِ)
مسأَلةٌ نسبيَّةٌ تختلفُ منْ مترجمٍ لآخرَ، والاختلافُ يكمنُ فِي درجةِ
حضورِ الرُّوحِ الجديدةِ الَّتي يُضفيها المترجمُ منْ لغتهِ، فعلَى
الرَّغمِ منْ أَنَّ اللُّغاتِ تختلفُ عنْ بعضِها البعضِ فِي كثيرٍ منَ
الخصائصِ، إِلاَّ أَنَّ تمكُّنَ المترجمِ منَ اللُّغتينِ، يساعدُ جيِّدًا
فِي نفخِ الرُّوحِ فِي الجسدِ/ النَّصِّ.
أَنا أَرى أَنَّه منَ الأَجودِ
أَن يكونَ مترجمُ الشِّعرِ شاعرًا، لأَنَّهُ الأَقدرُ علَى يَبلُغَ بِنا
النَّشوةَ/ المتعةَ/ الدَّهشةَ منَ القصيدةِ، فهوَ، كشاعرٍ فِي الأَصلِ،
قادرٌ إِلى حدٍّ كبيرٍ أَن يجعلَ الشِّعريَّةَ حاضرةً فِي القصيدةِ مَا
استطاعَ إِليها سبيلاً.
بالنِّسبةِ إِليَّ؛ عليَّ أَن أَقولَ بأَنَّني
لستُ مترجمَ شعرٍ محترِفًا، فمَا زلتُ تلميذًا فِي هذهِ المدرسةِ، مثلمَا
لَمْ أَزلْ تلميذًا فِي مدرسةِ الشِّعرِ.
* ما هو المقياس الذي نميز من خلاله بين النص الشعري المترجم بشكل جيد والنص المترجم بشكل سيئ؟
-
هذهِ مسأَلةٌ شعوريَّةٌ/ إِدراكيَّةٌ/ باطنيَّةٌ/ ... تختلفُ منْ قارئٍ
لآخرَ، لأَنَّ مفهومَ النَّصِّ المترجمِ بشكلٍ جيِّدٍ أَو بشكلٍ سيِّئٍ
متفاوتٌ، لأَنَّهُ نقلُ نصٍّ منْ لغتهِ الشِّعريَّةِ الأَصلِ إِلى لغةٍ
شعريَّةٍ أُخرى، أَي منْ حالةٍ كانَ فِيها إِلى حالةٍ أَصبحَ علَيها، بلْ
وكأَنَّها الولادةُ الأُخرَى لهُ.
* لمن تقرأ حاليًّا من الجيل الجديد، ومن استطاع بموهبته أن يلفت انتباهك؟
-
أَرى أَنَّ ثَمَّ شعراءَ مبدعينَ جُددًا فِي العالمِ العربيِّ، وهذَا
دليلُ أَنَّ عافيةَ الشِّعرِ العربيِّ لَمْ تزلْ بخيرٍ، وأَنَّ الَّذينَ
يرونَ عكسَ هذَا، أَو أَنَّ البوصلةَ تتَّجهُ نحوَ الرِّوايةِ (زَمنِ
الرّوايةِ)، همْ أُحاديُّو النَّظرةِ، أَو أَنَّهم يعانونَ منَ انحرافٍ
بصريٍّ بحاجةٍ إِلى تقويمٍ. أَعرفُ أَنَّهم يَرونَ غربةَ الشِّعرِ عنِ
القارئِ بسببِ رُؤيويتهِ، وكمَا لَو أَنَّه فِي انحسارٍ. لكنَّهم لاَ
يريدونَ أَن يَروا أَنَّ الشِّعرَ الحقيقيَّ ليسَ بكثرتهِ، أَو انتشارهِ،
وأَنَّه "يكْفي المرءُ أَن يتركَ شيئًا صغيرًا وراءَهُ يَجعل النَّاسَ
يتوقَّفونَ عندهُ للتَّفكيرِ." (تشارلز سيميك).
لِي دعوةٌ لَهم؛ أَن
يعتَنوا جيِّدًا جدًّا بلُغتِهم، أَي كمَا لَو أَنَّهم يعتَنونَ/ يحضِنونَ
فراشةً دونَ العبثِ بأَلوانِها. وأَنَّه ليسَ كلُّ نثرٍ يمكنُ أَن يكونَ
شعرًا بالنَّثر، أَو "القصيدةَ بالنَّثرِ"، لأَنَّ الشِّعريَّةَ هيَ
الفارقُ الأَهمُّ. وأَنَّ يعرِفوا أَنَّ كتابةَ بيتٍ منَ الشِّعرِ "أَصعبُ
منْ خلعِ ضرسٍ" كمَا قالَ الفرزدقٌ. وأَدعوهُم أَن يعملُوا بالمبدأِ الَّذي
وضعتهُ للشَّاعرِ فيَّ، وهوَ "الشَّغفُ والمثابرةُ".
وأَخيرًا وليسَ
آخرًا، أَن يمتثلَ مُحبًّا الشَّاعرُ مِنهم للحبِّ الَّذي يمنحهُ الشِّعرُ
لهُ أَثناءَ ولادةِ القصيدةِ مِنهُ، فبدونِ الحبِّ المتبادلِ بينَهما، لاَ
يمكنُ أَن تتحقَّقَ القصيدةُ مطلقًا.
لا َ أُريدُ أَن أُسمِّيَ
فأَنسَى. لكنَّ المهمَّ أَنَّني أَقرأُ لِمَنْ يُدهِشني وحشيَّةً، ويثيرُ
فيَّ رجفةَ الأَسئلةِ الَّتي أَجوبتُها أَسئلةٌ، ويُدخلني فِي مجاهلِ
الحقيقةِ المفقودةِ، ويجرِّمُني لِتمسُّكي ببَراءَتي المسروقةِ، ويُقنِعني
بحَملِ قنديلِ ضوءٍ أَسودَ كيْ أُضيءَ ذاتيًّا! ليسَ هذَا فحَسْب، بلْ
وأَكثرُ.
* سؤال أخير.. هل سبق وكتبت قصيدة ما بقرار؟
- لاَ.. لَمْ أَفعلْ،
فمِثلمَا لاَ يستطيعُ المرءُ أَن يخترعَ شاعرًا فيهِ، كذلكَ لاَ يستطيعُ
الشَّاعرُ الحقيقيُّ أَن يقرِّرَ كتابةَ قصيدةٍ، معَ العلمِ أَنَّ كثيرينَ
فعلُوها منذُ العصورِ القديمةِ، ومَا قصائدُ المدحِ والهجاءِ، وربَّما بعضِ
الرِّثاءِ، مثلاً، كتبتْ بقرارٍ منَ الشَّاعرِ، لهذَا تَراها نظمًا لاَ
شعرًا. لَمْ هناكَ شعراءُ يمارسونَ هذَا الخداعَ الشِّعريَّ إِلى الآنَ.
كيفَ
يمكنُ أَن يتوافقَ هذَا معَ ماهيَّةِ الشِّعرِ الحقيقيِّ؟ كمْ تعودُ لِي
حالةُ الارتعاشِ والرَّجفةِ كلَّما حطَّتْ عينايَ علَى مقولةِ (هرمنْ دو
كونينك): "الشِّعرُ مثلُ بصماتِ أَصابع/ علَى نافذةِ/ تركَها طفلٌ هجرهُ
النَّومُ/ وهوَ واقفٌ ينتظرُ الفجرَ."
أَيُّ شعرٍ، بعدَ هذهِ المقولةِ
المدهشةِ، يكونُ بقرارٍ؟! أَلاَ يشبِهُ "قرارُ" شاعرٍ، ومَا هوَ بشاعرٍ،
كتابةَ قصيدةٍ، مراهِقًا يقولُ: قرَّرتُ أَن أُحبَّ هذهِ الفتاةَ؟!
الحقيقةُ المؤكَّدةُ: مثلمَا يولدُ الحبُّ منْ تلقاءِ ذاتهِ، تولدُ القصيدةُ كذلكَ.