نجوى الحساني التائب
تُعتبر
العربي البرتولي
مدينة تطوان بمثابة المهد الذي احتضن قائمة طويلة ومُشرفة من الأسماء
التشكيلية التي تمتعت بشُهرة واسعة وعالمية، ونُقشت أسماءُها على السجل
الذهبي للفنانين التشكيلين العالميين مغاربة والأسبان، الإسبانيون هُم
اليوم كما كانوا بالأمس من ألمع الفنانين على صعيد الوطن الإبيري.
أما
المغاربة فالقائمة طويلة نذكر منهم المرحوم أبو علي المعروف بالمراكشي و
احمد بن يسف أحد أقطاب الفن التشكيلي بالجنوب الإسباني و المرحومين المكي
امغارة و عبد الله الفخار وسعد السفاج وغيرهم كثيرون.
لقد كان هؤلاء
جميعا بمثابة هدية قيمة إلى العالم قدمتها مدينة الإبداع والفنون الجميلة
تطوان، قنطرة الحضارات، على شكل إبداع يختزلُ ترانيم ذاكرة عربية إسلامية
أندلسية. ويختلق من ذاته الحدث المُمتع في الخلق لإغناء الخيال.
ومن
هؤلاء الأقطاب الفنان المبدع والمُميز الذي فضل العمل في صمت بعيداً عن
الأضواء وعدسات الكاميرات،أكثر من خمسة عقود ،كان همُه الشاغل العمل من أجل
رسالته التربوية الفنية السامية، لخلق جيل ذواق يتمتع بأخلاق عالية وإحساس
بالجمالية والتعبير الصادق،والأمانة في التبليغ و بمسؤولية جسيمة يتحملها
الفنان من أجل تقدم الشعوب، وتتجلى كل ذلك في إبداعاته التشكيلية الرائعة،
بتقنيات التنقيط، وموضوعات حساسة ومثيرة ذات جرأة في التبليغ، والفنان
البرتولي أحد أبناء الحمامة البيضاء تطوان،الذين قدموا للفن التشكيلي
المغربي والعالمي أروع الأعمال، وأثروا المشروع النهضوي بالإبداعات المؤثرة
والمستوحاة من الواقع المُعاش والحياة المرة الذي يعيشها الإنسان القروي
ويجسد ذلك دراماتيكياً حتى يتأثر بها المتلقي للوحة ويغوص في أعماق المجتمع
المدني و القروي، البرتولي فناناً بعيد الرؤية واسع التصور مستلهماً من
أحداث ومواقف اجتماعية،أجمل و أعظم الصور يُترجمها إلى واقع بجمالية وإحساس
صادق. فالفن عند البرتولي هو معنى لتبليغ رسالة أساسية ومهمة في حياة
الإنسان وهو طريق للمعرفة وذو قيمة للإنسان شأنه عالم الفلسفة والعلوم وهو
مواز للمعرفة التي بواسطتها يتوصل الإنسان إلى فهم بيئته وعندها يتاح لنا
تقدير أهميته من خلال وجوده في المجتمع، واكتشاف ذاته. وإن اكتشاف الذات
ليس وسيلة تنهي فعلاً من خلال وجوده ي المجتمع، لأن الثورة الاجتماعية ليست
هدفاً في نفسها ولأنها شرطاً للتجديد الإنساني. وبعبارة أبسط يتمكن الفنان
البرتولي من تحويل التجربة الفلسفية والشمولية الكيانية إلى نبضة دم في
القلب والجسد وتحويل هذه النبضة إلى الصورة أو اللوحة التشكيلية
الرائعة،وإذا ما اخترقنا هالة الفنان المُبدع والمُميز الذي يتمتع بعبقرية
وإحساس عميق بالأشياء التي يرسُمها ويتفاعل معها حتى يعطيها روح وجمالية
تجلُب المُتلقي أو المُشاهد لإبداعاته الرائعة والصادقة. ولا يغفل الفنان
العلمي البرتولي عن الغوص في الذاكرة العبقة بكل جماليات الماضي، والدفاع
عن الكرامة والحرية، والأسى عن الفوضى العارمة، التي تعيشُها مدينته تطوان،
التسيب والتسلط والبناء العشوائي وانتشار الباعة المتجولين، والحياة
القاسية التي تعيشُها المرأة القروية أو " الجبلية " يُجسد لنا في جميع
إبداعاته القيمة وبتقنيات عالية في التنقيط الذي ينفردُ به على الساحة
التشكيلية المغربية، اهتم بالمرأة وتقاليدها، أبدع ليُبلغ بلغة الفن معانة
المرأة القروية وصراعها الشديد من أجل لقمة العيش وحضنها لأولادها واستعمال
الحمار لقضاء مآربها من أجل الحفاظ على أُسرتها. كما اهتم ببائعة الخبز،
وأعطى اهتمامه البالغ بالأطفال في وضعية خاصة وخاصة أطفال الشوارع الذين
يحلُمون بعبور مضيق جبل طارق باحثين عن حياة أفضل.
والتعبير بالريشة هو
وسيلة المُبدع والفنان المُميز البرتولي العلمي، لبث مكنوناته، وتجديد
أسئلته لهذا العالم الكبير، والتعبير عن الذات بكل ما تحمله من ملامح
الهُوية الذاتية، والخصوصية الفردية، هو بداية فكرة التعبير عن الواقع
بمحاورته ومن ثم الخروج عليه والتحرر نحو الحُلم، ومن هذه النقطة بين
الواقع المُر الذي تعيشه تطوان، والحُلم بالعودة إلى الماضي الجميل لحمامة
البيضاء، ينطلق التشكيلي البرتولي، في بناء عوامله الذاتية بتشكيل صورة
المرأة والمدينة المنطلقتان من الذاكرة والواقع نحو الحرية والحياة والحب
لمدينة ذات تاريخ عريق كعاشق تُؤرقه هواجس الروح والإبداع والرغبة في
الانفلات من قيود وأوامر، والاتجاه نحو الإنسانية المطلقة، والإبداع الحُر
ومن خلال قراءة إبداعاته بقُرب وتأمل يُمكن تقصي بعض الملامح والظل والضوء،
التي حكمت تشكيل صور معبرة وخاصة المرأة ، في تجربته المُمتدة لأكثر من
خمسين عاماً.
ولا يغفل فنانا عن استدعاء الذاكرة العبقة بكل جماليات
الماضي الجميل، وتجربة الحرية الطقوسية ذات الأصول الأمازيغية والأندلسية،
وتجسيد الأحياء بالمدينة العتيقة، ووجوه أندلسية الأصل، وتعايش الأديان
الثلاث على أرض السلام والتعايش تطوان.
ويُعتبر الفنان البرتولي واحد
من أروع الفنانين التشكيليين الذين لمعوا بأعمالهم المُتألقة والمُميزة،
ولد بتطوان في1939 تاإبع دراسته الابتدائية والثانوية بتطوان التي
يعشقها،التحق بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان سنة 1956، وفي سنة 1960
انتقل إلى الديار الإيطالية لإتمام دراسته الجامعية بأكاديمية الفنون
الجميلة بروما،وفي سنة 1964 حصل على شهادة الإجازة في الفنون التشكيلية،وما
بين 1964 و 1965 تخصص في علم الآثار.وعاد إلى أرض الوطن سنة 1965 وعمل في
حقل التعليم بثانوية القاضي عياض لتدريس مادة التربية التشكيلية وقام
بتربية أجيل و أجيال،وله عدة أوسمة وجوائز عالمية وشارك في عدة معارض
تشكيلية في الداخل والخارج. وتوجد إبداعاته في أرجاء المعمور. إنه الفنان
الذي فضل العمل في صمت وأسند للفن التشكيلي المغربي وللثقافة المغربية أجمل
الأعمال الفنية..ذات الروح الوطنية والهُوية المغربية، وعبر في إبداعاته
عن الواقع للحياة البشرية، كما كان اهتمامه البالغ بكل كائن يعيشُ على هذه
الأرض بكل معاناته وشقائه من أجل البقاء والحياة، اهتم بالفقير وبالطفولة
المحرومة، إنه شعلة حيوية. له تاريخ ثقافي خصب من الفن التشكيلي الذي وصل
درجة العالمية.