في عام 1516 سيطرت جيوش السلطان سليم الأول على جبل لبنان وعلى المناطق الجبلية من سوريا وفلسطين، وعهد بإدارة هذه المناطق لفخر الدين الأول
وهو أمير من الأسرة المعنية الذي قدم الولاء للباب العالي. ولقد أزعجت
الأتراك محاولاته التي كانت ترمي إلى التملص من دفع الجزية. فقرروا بسط
النفوذ المباشر على البلاد، ولكن ملاك الأراضي والفلاحيين في جبل لبنان على
السواء قاوموا ذلك، وفي عام 1544 توفي فخر الدين في بلاط باشا دمشق مسموما، وكذلك استشهد ابنه قرقماز في عام 1585 أثناء قتاله للأتراك.
[59]بقيت المناطق التي تشكل لبنان المعاصر مقسمة وفق التقسيم الإداري الذي
وضعه العثمانيون، فاتبعت بعض المناطق ولاية دمشق وبعضها الآخر ولايتيّ
طرابلس وصيدا، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى عهد فخر الدين الثاني بن قرقماز، الذي كان سياسيا ماهرا حتى وصف بأنه تلميذ لميكافيلي،
فقام بدفع الجزية للسلطان وتقاسم معه الغنائم الحربية، فعينه السلطان
والياً على جبل لبنان، ثم وسّع نطاق سلطانه حتى شمل سوريا وفلسطين وشرق
الأردن،
[60] فاعتبر من أعظم الشخصيات اللبنانية والشرقية التي برزت أثناء العهد
العثماني، ولكن أعدائه أثاروا غضب السلطان والولاة عليه، فتم إرسال حملة
كبيرة ألقت القبض عليه حيث سيق إلى الآستانة وأعدم شنقا.
[61] وبعد ذلك بفترة زالت الإمارة المعنية من جبل لبنان بعد أن دامت أكثر من خمسمائة سنة وحلت بدلا منها الإمارة الشهابية.
[62]الأمير بشير الثاني الشهابي "الكبير"، أمير جبل لبنان من عام 1788 حتى 1840.
حكم جبل لبنان 8 أمراء من آل شهاب خلال الفترة الممتدة بين عامي 1697 و1841،
[63] وكان أبرزهم بشير الثاني
الذي اعتبر خليفة لفخر الدين الثاني، وخلال عهده حصلت بضعة أحداث هامة في
لبنان منها ثورتين من الشعب على الأمير بسبب الزيادة الباهظة في الضرائب،
مجيئ الجيش الفرنسي إلى سوريا بقيادة نابليون بونابرت
أثناء محاولته احتلال عكا، والحملة المصرية على بلاد الشام التي اخرجت
لبنان لمدة تسع سنوات من تحت الحكم العثماني واخضعته للحكم المصري، قبل أن
يعود العثمانيون لاستعادة البلاد بمساعدة الإنكليز والروس.
[64]لاجئون مسيحيون أثناء الفتنة الكبرى بين الدروز والمسيحيين في سنة 1860.
هرب بشير الثاني إلى خارج لبنان بعد الانتفاضة الشعبية ضد الحكم المصري،
فعيّن العثمانيون أميرًا خلفًا له هو بشير الثالث، لكن الإقطاعيون الدروز
رفضوا الخضوع له، فانتفضوا ضده وقاوموه بينما دعمه المسيحيون، فحصلت مجازر
متبادلة، كانت الغلبة فيها للدروز. انقضت الإمارة في جبل لبنان بعد هذه الأحداث، حيث نقل العثمانيون الأمير بشير الثالث إلى الآستانة وعينوا حاكما عثمانيا مباشرا للجبل، وبعدها اتبعوا ولاية جبل لبنان إلى ولاية دمشق.
[65] وفي فترة ضعف الدولة العثمانية
أخذت الدول الأوروبيّة الكبرى تتصل بالقوى المحليّة في لبنان، وبدأت
تحرضهم ضدها لتنال من ضعفها، كما أن بعض القوى المحليّة أخذت تتصل بالدول
الأوروبيّة لتدعم مكانتها المحليّة ضد القوى المحليّة الأخرى المنافسة لها.
وقد شعر العثمانيون أن وضع جبل لبنان
الداخليّ لا يبعث على الاطمئنان فرأوا أن يعملوا على تنظيمه إداريًا بشكل
يتناسب مع ظروفه الحاضرة، فقسموا لبنان إلى قسمين: القسم الشمالي وعينوا
عليه قائمقامًا مارونيًا. والقسم الجنوبيّ وعينوا عليه قائمقامًا درزيًا،
ومع هذا لم يصبح وضع القائمقاميتين أفضل ممّا كانتا عليه في السابق، ولم
تستقر الأمور الداخلية فيهما. فقد وقعت في جبل لبنان خلافات طائفيّة حادة
خاصة بين الدروز والموارنة عام 1841م، وكذلك عام 1845م، وبلغت ذروتها عام 1860م.
[66] ألغى العثمانيون نظام القائمقاميتين وأنشأوا بالاتفاق مع الدول الأوروبية الكبرى نظام متصرفية جبل لبنان، بسبب فشل النظام القديم في حل النزاعات القديمة وتسببه بالفتن. وفي عهد المتصرفية اقتصرت حدود لبنان على سلسلة جبال لبنان الغربية وبعض المناطق المجاورة في البقاع، فأصبح لبنان يُعرف بلبنان الصغير.
[66] انتشر التعليم في ظل متصرفية جبل لبنان وتغيّرت البنية الاجتماعية للمجتمع اللبناني بسبب ازدياد انفتاحه على أوروبا، كذلك برزت الهجرة اللبنانية على نطاق واسع إلى دول أمريكا اللاتينية وفرنسا ومصر والولايات المتحدة.