صورة لأمازيغ التمحو
عندما نتصفح شبكة الإنترنت نجد كثيرا من الدراسات والمقالات بعضها يشير إلى الجذور الأمازيغية للحضارة المصرية القديمة والبعض الآخر يصرح ويؤكد على ذلك ولكن معظم هذه الكتابات، للأسف، يمكن اعتبارها ضعيفة لا يصح الاستشهاد بها في بحث من البحوث الأكاديمية. وذلك لأنها تتناول بعض الحقائق دون الإشارة إلى المصادر والمراجع، وبعضها لا يحمل أسماء المؤلفين رغم أنه يحمل معلومات تاريخية كثيرا ما تكون صحيحة. والحق أن الكثير من هذه المقالات تستند إلى حقائق تاريخية صحيحة نوعا ما إلا أنها لا تشير إلى المصادر بشكل يزيد البحث توثيقا ويزيد القارئ اطمئنانا، وهذا برأيي لا يشجعنا على الأخذ بها حتى وإن كان بعض أصحابها متخصصين في التاريخ وحتى وإن كان بعضهم يحمل شواهد عليا في هذا الميدان. لذا سأحاول أن أشير إلى المصادر التاريخية، من خلال هذه الورقة، حتى وإن كان ذلك يقتضي بعض التفاصيل قد تكون مملة لدى القارئ. وذلك من أجل أن نبين ماذا نقصد بقولنا (الحضارة المصرية الأمازيغية). لعل الأدلة الأثرية على الجذورالأمازيغية للحضارة الفرعونية تفوق الكتابات التاريخية التي تناولت هذا الموضوع. وذلك لأنه كان هناك حرص واضح، من طرف الدول الاستعمارية، على إفراغ شمال أفريقيا من شعبها الأصلي من خلال إفراغها من تاريخها الحقيقي وإفراغها من ثقافتها الأصيلة، وهذا يعني إعادة إعمارها بشعوب أخرى مزيفة من خلال تحريف تاريخها الحقيقي وتزييف ثقافتها الأصيلة وتغريب أو تشريق أهلها. فلا ينبغي للقارئ الأمازيغي أن يشك في هذه المسألة فهي صحيحة وواضحة وضوح الشمس. على سبيل المثال وليس الحصر، من الواضح أنهم يركزون على أمجاد ما يسمى قرطاج ويتغاضون عن حقيقة أن القرطاجيين قد تحولوا إلى أفارقة (أمازيغ) و لم يكتفوا قط بالاعتماد على أنفسهم، في بناء حضارة قرطاج، بل اعتمدوا على الأمازيغ إلى أبعد الحدود وهذا يعترف به حتى بعض المشارقة ولو باستحياء [1] ولقد أشار المؤرخون إلى زواج الملك الأمازيغي "هيارباس" من الأميرة الفينيقية "أليسا" منذ فجر الدولة القرطاجية [2] رغم الأسطورة التي يزعم صاحبها بأن أليسا قد طلبت من الملك الأمازيغي "هيارباس" أن يمهلها بعض الوقت وأنها نصبت، بعد ثلاثة أشهر، محرقة كبيرة عند أبواب المدينة وقررت أن تقدم ذبيحة لروح زوجها الأول، وبعد أن أهلكت ضحايا كثيرين ارتمت بدورها في المحرقة [3] فهذه الأسطورة تناقض نفسها بنفسها أولا ثم تتناقض مع الواقع القرطاجي بعد ذلك ثانيا.
أما تناقضها مع نفسها فمن الحماقة أن تقوم أميرة محنكة كأليسا بقطع كل هذه المسافة (الفاصلة بين لبنان و تمازغا ) متحدية كل المخاطر وتحصل، في النهاية، على أرض مقدمة لها على طبق من الذهب ثم تلقي بنفسها في النار بعد أن حصلت على كل ما تريد ! .
أما التناقض مع الواقع القرطاجي، بعد ذلك، فلا شك أن أليسا لو انتحرت بهذه الطريقة، وفي هذا الوقت المبكر من تأسيس مدينة قرطاج، لكانت قد دبت الفتنة في صفوف رفاقها و من الطبيعي أن تذهب قرطاج أدراج الرياح مع العلم أنه من الصعب أن نجد من يحكمها ما دامت الأميرة قد انتحرت.
تقول "مادلين هورس ميادان" عن زواج أليسا الفينيقية من الملك الأمازيغي "هيارباس": "ولم تستطع أن ترفض لأن ذلك الملك كان قويا وقادرا على أن يهدد أمن مدينة قرطاج التي ما برحت عاجزة عن مجابهة الحرب.[4] ما دامت الأميرة مستعدة للانتحار، كتعبير عن رفضها للزواج بملك، أفلم تخش أن يهدد أمن مدينتها بعد موتها؟ برأيي أن هذا يصب في محاولة التغاضي عن الدور الأمازيغي في حضارة قرطاج وغيرها رغم أن ذلك ضرب من المستحيل لأن حضارة قرطاج لم تنجز شيئا إلا على يد الإنسان الأمازيغي. لم تنتصر في حرب إلا بالجيش الأمازيغي، وأخيرا لم تنهار إلا على يد الجيش الأمازيغي بعد أن طغت وظهر فسادها في البر والبحر، لكنهم يحاولون التغاضي الكلي أحيانا عن الدور الأمازيغي لأن التركيز على قرطاج البائدة لن يحرجهم وذلك لأن القرطاجي الفينيقي هو أيضا دخيل على تمازغا ولن يزايد عليهم في كلونياليتهم، أضف إلى ذلك أن هذا القرطاجي الفينيقي قد انقرض ولم يعد هناك داعي لإخفاء تاريخه أما الأمازيغي الأصلي فمن الخطر على المستعمر أن يعترف له بدور حضاري أو تاريخي أو ثقافي لأنه مازال حيا ومازال بإمكانه أن يوظف ذلك ضد المستعمر. وكذلك لا حرج عند الغربي من الحديث عن عروبة شمال أفريقيا لأن المشارقة لن يكون بمقدورهم أن يزايدوا عليه في شأنها، ويبدو أن كثيرا من البسطاء الأمازيغ والعرب يعتقدون بأن فرنسا، على سبيل المثال، هي التي تقف وراء المطالب الثقافية الأمازيغية بغية التفرقة وينسون الدورالكبير الذي لعبته فرنسا هذه في تعريب شمال أفريقيا وعلى رأسها المغرب الأقصى !
إن من يقرأ التاريخ جيدا سيجد بأن المؤرخ الغربي الكلونيالي (أكيد لا أعمم لأن الشرفاء موجودون دائما) عندما لا يجد طريقة لتغريب عنصر من العناصر الأمازيغية يحاول أن يدفع به إلى المشرق إذ تراه يعربه نيابة عن المشارقة، وهذا كله من أجل إفراغ تمازغا (شمال أفريقيا) من دورها الحضاري، كما قلت آنفا. إلا أن تمازغا، على ما يبدو، كانت أقوى من ذلك كله. فلقد تعب الأعداء والطامعون في إخفاء كل ما من شأنه أن يثبت للإنسان الأمازيغي بأنه صاحب تمازغا وصاحب اللغة الأمازيغية المتميزة والمهمشة من طرف الاستعمارات المتعاقبة على تمازغا، وأن له مطلق الحق في أن يحيي ثقافته وتاريخه في بلاده. وأن كل من تضمه تمازغا يمكن اعتباره أمازيغيا ما دامت الأمازيغية ليست عرقية ولا عنصرية كما يتصور بعض البسطاء المكذوب عليهم من طرف بعض الابتلاعيين العنصريين بحق والذي لم يكفهم أن يفرضوا تاريخهم وثقافاتهم على بلدانهم الأصلية فحسب، بل حاولوا، وما زالوا يحاولون، أن يفرضوها على العالم أجمع وهذا ما لا تفعله الأمازيغية (والحمد لله) إذ تدعو لإحياء تراث الأمازيغ بأوسع ما للكلمة من معنى وتدعو للمحافظة على ثقافة وتاريخ الأمازيغ داخل أراضي تمازغا وليس خارجها، ويمكن القول بأن هذا لا يمت للتعصب العرقي بصلة على الإطلاق بل يتعلق بالرغبة الطبيعية في إحياء والتمسك بالهوية الحقيقية الأصيلة، وهذا أمر يسير على خطاه الكل وتقره أعراف الكل وإلا فإن أية مراوغة، من طرف الآخر، يجب أن تنطبق عليه بالدرجة الأولى قبل غيره، وهذا يعني أنه يتوجب عليه الكف عن نشر ثقافته وفرضها على الآخرين. هذا رغم أنه لا مجال للمقارنة بين من يحاول أن يفرض نفسه على الآخرين، خارج بلده، ومن يحاول أن يفرض نفسه على نفسه داخل بلده. فالأمر واضح لا داعي للتعقيدات الفارغة التي لا تستند إلى مثقال حرف من الواقع الملموس.
رغم توفر كم كبير من الإشارات الدالة على الأصول الأمازيغية للحضارة المصرية القديمة، منذ زمن بعيد، إلا أن هذه الإشارات تزداد توفرا بين الحين والآخر. لقد كنا، على سبيل المثال، نعتقد بأن الفراعنة أول من مارس عملية التحنيط ثم اكتشفنا، بعد ذلك، بأن الأمازيغ قد سبقوهم إلى هذه العادة ومن المعلوم أنه قد تم العثور على أقدم مومياء أمازيغية في منطقة "اكاكوس" الليبية سنة 1958 م. وهي أقدم من المومياء المصرية بحوالي 1500سنة !. هذا بالإضافة إلى كثير من القرائن الآثرية الأخرى التي تشمل مختلف المظاهر الحضارية والتي تكاد تؤكد بأن الحضارة الفرعونية قد أسسها الأمازيغ الذين كانوا يعيشون في منطقة الصحراء الكبرى إلى غير ذلك مما سنتطرق إليه من خلال هذه الورقة من الإشارات والأدلة والأراء التأريخية التي تصب في هذا الموضوع. ورغم أن قصة الإله "آمون" ، على سبيل المثال، ما تزال فيها نقاش إلا أن المرجح أن هذا الإله أمازيغي انتقل من شمال أفريقيا إلى مصر. لا بل من الصعب جدا أن نجلعه مصريا رغم أن معظم الدراسات قد انصبت على مصر القديمة وتمجيدها ومحاولات محلية وغيرها لجعل هذه الحضارة ذاتية، أي أن الفراعنة وجدوا في أرض النيل منذ أقدم الدهور الخ. ورغم أن التاريخ الأمازيغي، كما قلنا، لم يتطرق إليه المؤرخ النمطي عادة إلا من أجل طمسه إلا أننا ما زلنا نرى الحقيقة تقهرهم وتجعل بعضهم يتفوه بها على استحياء وبشيء من الغموض وهو يخشى أن يكتشف ابن شمال أفريقيا الأمازيغة بأن له تاريخا مشرفا غنيا يجب التنقيب عنه وإخراجه إلى الحاضر. رغم كل هذا ورغم اكتفاء الأمازيغي بما يقدمه الأعداء، الذين سيطروا على الساحة، من الاعترافات هنا وهناك بماضي شمال أفريقيا إلا أن المؤرخ الأمازيغي يستطيع أن يثبت للجميع بأن للأمازيغ تاريخا مجيدا ولهم دور كبير جدا في صنع الحضارة البشرية.
سبق أن تحدثت عن الفراعنة الأمازيغ[5] الذين حكموا مصر وأسسوا هناك أسر أمازيغية فرعونية ابتداء من سنة 950 ق.م. وكنت قد ذكرت بأن الفراعنة القدماء أيضا من المرجح أن يكونوا ذوي أصول أمازيغية. من خلال هذا الموضوع سأتحدث عن بعض الإشارات التي تقوي الاحتمال بأن يكون الفراعنة القدماء من أصول أمازيغية، وسأستعرض ما أمكن من اتجاهات المؤرخين الذين لمح بعضهم وصرح البعض الآخر بأن الفراعنة القدماء ينحدرون من أصول أمازيغية فعلا هاجروا إلى أرض النيل واستقروا هناك بعد أن دخلوا حياة الزراعة في هذه الأرض المهيأة طبيعيا لذلك مما يعني الاستقرار بدل الترحال وراء الماشية والصيد وغير ذلك مما تفرضه معظم أراضي أمازيغ الشرق (ليبيا) في ذلك الوقت. قد يبدو غريبا عن القارئ أن نعتبر مصر القديمة عبارة عن حضارة مصرية أمازيغة ولكن في الحقيقة هذا ليس كلاما جديدا بل يعرفه المؤرخون منذ القدم وكل ما في الأمر أن هذه الاتجاهات التاريخية كنا نجدها مبعثرة هنا وهناك تحتاج للجمع والتمحيص والتصفية، ومن ثم تقديمها في صيغة أكثر تبسيطا ووضوحا للقارئ. مما لا شك فيه أن كثيرا من القراء الذين يقرؤون تاريخ مصر القديمة ربما يمرون على النقوش والآثار والكتابات التاريخية التي تتحدث عن شعب التحنو والتمحو والليبو والمشوش الخ دون أن يعرفوا بأن هؤلاء هم أمازيغ أقحاح، فلو كانت مثل هذه الأسماء معروفة لدى الجميع، وعلى وجه الخصوص القارئ الأمازيغي، لما كان من الغريب أن نتحدث، منذ زمن طويل، عن الحضارة المصرية الأمازيغية دون أي عجب أو استغراب، وهي العبارة التي تستمد مقبوليتها وصحتها ودقتها أولا من كون الأمازيغ قد حكموا مصر لأكثر من قرنين، فيما بعد، وهذا محل إجماع المؤرخين. ثانيا تستمد مقبوليتها من كون الأصول الفرعونية نفسها من الجائز، إن لم نقل من المؤكد، أنها أمازيغية. أقول هذا فقط من أجل أن أوضح للقارئ بداية بأن عنوان هذه الورقة ليس اندفاعيا أو طائشا أو إيديولوجيا أو يندرج في محاولة ما لابتلاع الحضارة المصرية، بل إن ما يدور حوله الموضوع هنا قائم على أسس تاريخية تجعله مشروعا إلى أبعد الحدود خاصة وأنه يستند إلى أقوال مؤرخين ليسوا أمازيغ بالضرورة إن لم نقل ليسوا أمازيغ بالمرة.
مما يكاد يجمع عليه المؤرخون أن هناك تفاعلا وتشابها في التقاليد والعادات واللغة الخ بين المصريين القدماء والأمازيغ، وأن هذا التشابه نابع من التفاعل الذي كان قائما بين الحضارتين منذ فجر البشرية، فهو ليس وليد الفترة التي استولى فيها الأمازيغ على عرش النيل، بعد نهاية الأسرة المصرية الواحدة والعشرين سنة 950 ق.م، بل كان قائما منذ بدأت ملامح الحضارة الفرعونية تتشكل وتظهر على مسرح التاريخ. هناك رسوم وصور وآثار وعلامات تشير أحيانا، بشكل واضح، إلى أن الفراعنة ينحدرون من أصول أمازيغية، بالإضافة إلى عدد لا بأس به من القرائن التاريخية بين الأحداث والمظاهر التي تصب في هذا الاتجاه. لو بدأنا التركيز على فراعنة ما قبل عصر الأسرات فلا شك أننا سنتوصل إلى ما يرجح كفة هذا الاعتقاد.
لكي نعرف كيف تحدث المصريون القدماء عن علاقتهم بأرض النيل وما إذا كانوا يقولون بأنها بلدهم الأصلي منذ بدء الخليقة أم لا، فلعل من الجدير أن نشير إلى أن المؤرخ اليوناني "هيرودوت"، الذي يعتبر كتابه مصدرا من المصادر الكبرى في تاريخ مصر، يشير إلى نقطة هامة فيما قاله المصريون وما قاله حتى المؤرخون الإغريق وغيرهم ممن سبقوه ، ومن ثم يبني علاقة المصري القديم بأرض النيل انطلاقا من رأيه الشخصي نوعا ما. يقول هيرودوت في شأن العلاقة التاريخية التي تربط المصري القديم بأرض النيل: "وإذا نحن أخذنا بآراء الأيونيين في مصر، وهم يظنون بأن الدلتا وحدها هي مصر، ويقولون إن ساحلها يمتد أربعين "إسيخينوس" من المرقب المسمى باسم "برسيوس" حتى ملاحات الفرع البيلوزي وأنها تمتد حد قولهم، من البحر في الداخل حتى مدينة "كاركاسوروس" التي يتفرع النيل عندها إلى الفرعين" البيلوزي" و"الكانوبي" أما بقية مصر - في رأيهم- فهي جزء من ليبيا وجزء من بلاد العرب" [6] يكفي أن نلاحظ هنا بأن قدماء المؤرخين، الذين أشار إليهم هيرودوت، كانوا يعتبرون الأراضي المصرية الحالية ليبية ماعدا الدلتا. لنتابع كلامه بعد ذلك حيث يقول: "فإذا سلمنا بهذا القول، كان معناه أنه لم يكن للمصريين وطن فيما مضى. في الواقع أن الدلتا، كما يؤكد المصريون أنفسهم، وحسب اعتقادي الشخصي، أرض طميية، وأنها في نهاية القول حديثة التكوين، وعلى ذلك إذا لم يكن لهم وطن من قبل فلماذا يعتقدون أنهم أقدم شعوب العالم؟ ولماذا يحاولون المستحيل لإثبات ذلك؟ " [7] أود أن أشرح بعض المصطلحات الواردة في كلام هيرودوت أولا: أربعين إسيخينوس يبلغ ما يعادل 2,475 كم، ولكن المسافة في الواقع-حسب أحمد بدوي- لا تعدو أكثر من نحو 270 كم[8]. بالنسبة إلى المرقب المذكور أعلاه فأغلب الظن أن يكون على بعد قريب من المكان المعروف باسم "أبو قير" [9] ويقول أحمد بدوي بأن "برسيوس" مرقب في أقصى الغرب من دلتا النيل، بالقرب من"أبو قير" [10] وأن البليوزي هو "تل الفرما" ومكانها اليوم بين "تل أبي صيفه" وتل "الفراعين" [11] أما كاركاسوروس: فأغلب الظن أنها المكان المعروف اليوم باسم "الوراق"[12]
لاحظ أن هيرودوت ينقل إلينا أراء المصريين القدماء، الذين يقولون بأن الدلتا حديثة التكوين. وبربطنا ذلك مع ما جاء به المؤرخون الأيونيون الذين سبقوه، وهو يقصد ما رواه سلفه (هيكاتيه المالطي) [13]، في أن الدلتا وحدها هي مصر وأن بقية الأراضي، المعروفة بالمصرية فيما بعد، هي جزء من ليبيا (أمازيغية) وجزء من بلاد العرب، سنستنتج معه ما يبدو طبيعيا ومنطقيا، ألا وهو أن المصريين القدماء لم يكن لهم وطن فيما مضى. وفي نفس الوقت نلاحظ أن باقي الأرض، التي قال بأنها ليبية، من الطبيعي أنها كانت مسكونة من طرف الأمازيغ. إذا جمعنا هذه المسألة مع هذا الاستنتاج الأولي، الذي خلص إليه هيرودوت، فإن هذا يعني أن أرض الدلتا كانت خالية في حين كانت بلاد ليبيا مأهولة. سيلاحظ القارئ بأنني غفلت الجزء الذي يقول هيرودوت بأنه من بلاد العرب، وذلك لأننا بصدد دراسة التشابه والتفاعل القائمين بين الفراعنة والأمازيغ، فبما أننا لم نجد ما يدل على العروبة في أرض النيل، بينما نجد كما هائلا من مظاهر التشابه بين الأمازيغ والفراعنة، كان من الطبيعي أن يتركز البحث في موضوع العلاقة بين الأمازيغ وأرض النيل. إذن فلقد وجدنا أن الدلتا وحدها هي مصر (بالنسبة إلى المؤرخ القديم) وأن باقي الأراضي هي ليبية (أمازيغية). وقلنا بأن هذا يعني أن الدلتا كانت خالية. فلنلاحظ أن هيرودوت يضم اعتقاده إلى ما قاله المصريون القدماء، ألا وهو أن الدلتا أرض طميية وأنها حديثة التكون ولهذا ترك هيرودوت سؤاله مطروحا هنا، أي ما دام المصريون القدماء يؤكدون هذه المعطيات التاريخية فلماذا يعتقدون، أو بالأحرى يدعون، بأنهم أقدم شعوب العالم؟
إذا تأملنا جيدا سنجد بأن سؤال هيرودوت لا يبدو دقيقا، منذ الوهلة الأولى، وذلك لأن ادعاء المصريين القدماء بأنهم من أقدم شعوب الأرض لا يتنافى مع كون الدلتا حديثة التكوين، لأنهم لم يقولوا بأنهم كانوا يعيشون في الدلتا منذ بدء الخليقة وأنهم (فيها) أقدم شعوب العالم، وبالتالي فإن أقدميتهم لا تعني أقدمية الدلتا بالضرورة. إذن فإن سؤال هيرودوت كان يتضمن علاقة المصري القديم بأرض الدلتا وما دامت هذه الأخيرة حديثة التكوين، لأنها أرض طميية، فهذا يعني (حسب استنتاجه الأولي ) بأن المصري القديم هو حديث العهد بها أيضا. وهذا ما أدركه بعد ذلك، وإن عبر عنه بشكل خافت، إذ يقول: "ومهما يكون من أمر فأنا لا أصدق أبدا أن المصريين وجدوا في نفس الوقت الذي تكونت فيه الدلتا التي يسميها الأيونيون "مصر" بل هم قد عاشوا دائما منذ بدء الخليقة البشرية. ولما أخذت بلادهم في الامتداد بقي الكثير منهم في الوراء، بينما انحدر الكثيرون تدريجيا إلى الأرض الجديدة، وأيا كان الأمر فقد كانت طيبة التي بلغ محيطها 6120 ستاد تسمى منذ القدم "مصر" " [14] من الواضح أن كلام هيرودوت يشير إلى انتقال ما إلا أنه كان غامضا ولم يوضح لنا ماذا يقصد بقوله "بقي الكثير منهم في الوراء" وكأنه لا يهمه سوى أن يتحدث عن المصري القديم داخل مصر بغض النظر عن التطرق إلى مسألة الأصول والجذور.
وبعد ذلك يذوب كلامه كالملح عندما يلقي بثقل الأقدمية المصرية على "طيبة" فهذا يوضح تعبه في استغوار ما تيسر من أقدمية المصري القديم في أرض النيل عندما يعيده إلى طيبة وكأنها قديمة جدا برأيه. يقول أحمد بدوي في شأن حديث هيرودوت عن طيبة هنا " أكبر الظن أن يكون ذلك أثرا من آثار الدور الهائل الذي ملأ به الزمن أسماع الدنيا من شهرة "طيبة" وذكراها الخالدة منذ نهضتها المعروفة إبان الثورة على الهكسوس" [15] كما ينفي أن يكون لاسم "مصر" صلة بطيبة. إذا كانت شهرة هذه الأخيرة تعود إلى العصر الذي تم فيه طرد الهكسوس من مصر فهي إذن حديثة ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن نقول بأنها قديمة بالشكل الذي يميل إليه المؤرخ هيرودوت. إن ما يجوز أخذه من كلام هذا الأخير، في هذا الصدد وفقا للمنطق السليم، هو أن الدلتا حديثة التكوين وكفى. أما المصري القديم (سواء كان من أقدم أو من أحدث شعوب العالم) فقد انتقل إليها من مكان آخر إلا أن هذا لا يمنع أن تكون طيبة قديمة أو غير ذلك فنحن نحلل ما هو أمامنا فحسب ونقول بأن هيرودوت لم يكن دقيقا هنا. على كل حال نستشف من الاستنتاجات التي توصل إليها أنه يكاد يصرح بأن الليبيين (الأمازيغ) هم الذين نزحوا إلى هذه الأرض التي اتفقنا على أنها جديدة، ومن المحتمل أنه يقصد أن الإنسان المصري جاء من طيبة وتوجه شمالا. وسواء كان الأمر كذلك أم لا أعتقد بأنه يقربنا كثيرا من هذا الاستنتاج، وإلا فمن هم هؤلاء الذين انحدروا إلى الأرض الجديدة (الدلتا) ما دامت غير مأهولة من قبل وما دامت الأراضي المصرية الأخرى هي جزء من ليبيا؟. لنساير قليلا اجتهادات هيرودوت الشخصية إذ يقول: "أما إذا كان رأي الأيونيين صحيحا فأحب أن أبين أن اليونانيين والأيونيين بالذات لا يفقهون حسابا حين يزعمون أن العالم جميعه من ثلاثة أجزء، أوروبا وآسيا وليبيا إذ يجب عليهم أن يضيفوا إلى ذلك رابعا وهو دلتا "مصر" ذلك لأنها إذا لم تكن جزء من آسية ولا جزء من ليبيا. لأن النيل في الواقع على هذا الحساب، ليس هو الذي يفصل آسية عن ليبيا ولكن عند رأس هذه الدلتا يتفرع النيل فرعين بحيث تصبح مشاعا بين آسيا وليبيا."[16]
أول ما يمكن استشفافه من هذا الكلام أن المؤرخين اليونان وغيرهم، قبل زمن هيرودوت، كانوا يرون ليبيا أكثر حضورا من مصر، على مسرح التاريخ، سواء كان السبب في ذلك علمهم الواسع أم جهلهم المدقع. وربما كان للجهل نصيب في هذا الكلام والحق أنهم أطلقوا ليبيا على كل ما أدركوه من شمال أفريقيا ولا يستبعد أن نقول بأنهم لم يدركوا من أفريقيا غير هذا الشمال.
على كل حال لو كانت مصر أكثر حضورا آنذاك لكانت قد فرضت نفسها عليهم. فهذا واضح في كلام هيرودوت. بل يبدو من كلام هذا الأخير وكأنه أراد أن يؤكد اكتشافه لمصر بالنسبة للإغريق القدماء. حتى وإن لم تكن آنذاك بلاد الأمازيغ في حضارة تفرض على هؤلاء المؤرخين أن يعتبروها الجزء الثالث من هذا العالم فأعتقد أن شساعة أرضها كانت السبب الأساسي وأنه يكاد يكون واضحا بأنهم كانوا يعتبرون مصر جزء من تمازغا (ليبيا) التي تعتبر بلدا عملاقا بالنسبة إلى أرض مصر.
بما أن الأمازيغ الذين كانوا أكثر وأقدم احتكاكا مع المصريين القدماء هم "التحنو" فسأتحدث قليلا عنهم لأن هؤلاء قد جاء ذكرهم بكثافة، على ما يبدو، منذ زمن طويل من خلال الآثار والنقوش والرسوم الفرعونية.
بالنسبة إلى من لا يعرف تجدر الإشارة إلى أن التحنو هم الأمازيغ بالضبط كما ذكرت في البداية. ولقد جاء ذكرهم في بعض النقوش المصرية بهذا الاسم، كما هو معروف لدى المؤرخين. ثم إن العودة إلى دراسة تاريخ التحنو أو التمحو بالضبط قد أسقطت النظرية الغربية التي كانت تحاول ابتلاع تمازغا بحجة أن الأمازيغ يعودون، أو بعضهم على الأقل، إلى أصول آرية. والدليل على ذلك- حسب رأيهم- أن بشرة هؤلاء تميل إلى الشقرة وعيونهم تميل إلى الزرقة، وظنوا بأن ذلك يعود إلى فترة الوندال (المتأخرة جدا) أو غيرهم من القبائل الأروبية التي يفترض أن بعضها قد زار السواحل الشمالية لأفريقيا. إلا أنهم عندما اكتشفوا بأن أمازيغ التمحو كانوا أيضا ذوي بشرة تميل إلى الشقرة وعيون تميل إلى الزرقة تأكدوا من أن الأمازيغ أبناء هذه الأرض منذ أقدم الدهور ولا علاقة لهم بالآريين أو غير ذلك من هذا القبيل. لقد ورد اسم تحنو في نصوص رعمسيس الثالث إلا أن ذكر التحنو، أو تحنى (Tjehnu, Thny) قد جاء في النقوش المصرية منذ فجر التاريخ المصري، وأقدم إشارة إليهم ترجع إلى عهد الملك العقرب، إذ كتب اسم بلادهم على أثر يصور أسلابا أحضرت من هناك، ثم من عهد الملك نعرمر Narm، ومنذ الدولة القديمة حتى الأسرة الثامنة عشرة كان سكان تحنو (T Jehnu) Thnu يذكرون باعتبارهم "حاتيوعا" Hatyu-ca وهو لفظ كان يطلق على الأمراء المصريين [17] فما يجدر تأمله، في هذه النقطة، هو أن أمازيغ التحنو (حاتيوعا) كان يطلق اسمهم على الأمراء المصريين، وقد يكون لهذه المسألة علاقة بحكمهم لمصر(منذ ما قبل الأسرات !)، ثم لا ننسى بأن الملك "نعرمر" هو الفرعون "مينا" الذي أسس أول أسرة فرعونية وقام بتوحيد مصر لأول مرة. فكل هذا يعني أن أمازيغ التحنو كان لهم احتكاك واضح بالفراعنة منذ فجر التاريخ المصري القديم بغض النظر عما إذا كان الفراعنة إخوانهم ينحدرون من أصول أمازيغية مثلهم أو لا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] محمد الهادي الشريف، تاريخ تونس، ترجمة : محمد الشاوش- محمد عجينة، الطبعة الثالثة، 1993،ص20
[2] مادلين هورس ميادان، تاريخ قرطاج، ترجمة: إبراهيم بالش، الطبعة الأولى 1981 ، ص 40
[3] المرجع السابق، ص 40
[4] المرجع السابق، ص 40
[5] سعيد بودبوز، الفراعنة الأمازيغ، مقال منشور بجريدة "Agraw Amazigh" ، ع 34/239، 16 ماي 2010-05-19
[6] هيرودوت يتحدث عن مصر، ترجمة: محمد صقر خفاجة، ط 1966، ص 88-89
[7] المرجع السابق، ص 89-90
[8] المرجع السابق، ص 88، الهامش رقم 4
[9] المرجع السابق، ص 89 ، الهامش رقم 1، ثم انظر (Strabon, 17.1, 18, P801)
[10] المرجع السابق، ص 89، الهامش رقم 2
[11] المرجع السابق، ص89 ، الهامش 3
[12] المرجع السابق، ص 89 الهامش رقم 4
[13] المرجع السابق، ص88 الهامش رقم 3
[14] المرجع السابق، ص90
[15] المرجع السابق، ص90، الهامش 3
[16] المرجع السابق، ص 91
[17] محمد بيومي مهران، مصر والشرق الأدنى القديم، (المغرب القديم)،ج 9، ط 1990، ص 69، ثم راجع: Gardiner, A. H.Onomastica,I, 1974, P.116-117