بيسان طيمر عام وأكثر، منذ قرر محمد
بو عزيزي أن يشعل النار في نفسه، هكذا بدأت حكاية ستمتد من تونس إلى مصر
وليبيا والبحرين وسورية و... صار للحكاية أبطال كثر، آلاف بل عشرات الآلاف،
وتزاحم الملايين في الأدوار الثانوية، وفي قلب الحكاية نشأت حكايات أخرى،
لتتفرع منها نفسها حكايات صغيرة، وهكذا أصبح سجل الثورات أشبه بالحكايات
التي تتراكم، تلتقي، تتشابه، وتفترق أحياناً كثيرة، كما في "ألف ليلة
وليلة". لكن حكايات الثوار ظلت حبيسة جدرانهم هم، جاء من يحكي الحكاية
عنهم، وهنا بيت القصيد. لندع العام 2011، لندع الدول العربية جانباً، ونعود
بالزمن- لبرهة- بضع سنوات إلى الوراء. واشنطن – 2006: الحملة الإنتخابية
الرئاسية الاميركية تشتد. استطلاعات الرأي تشير إلى تراجع شعبية الرئيس
(السابق) جورج بوش، مستشاروه ومعدو حملته يدرسون الإستراتيجيات الممكنة
للتغلب على هذا الواقع، بينهم كارل روف الذي سيشهر سلاحه الأجدى
"إستراتيجية شهرزاد"، وقد لخّصها بمبدأ بسيط "عندما تحكم عليكم السياسة
بالإعدام إبدأوا برواية الحكايات المبهرة، والمؤثرة، والأخاذة لدرجة تنسي
الملك (والمواطنين) حكم الإعدام". لم يكن روف قد "اخترع البارود"، ففاعلية
الـ storytelling، في الحياة السياسية (الأميركية بداية) أثبتت فاعليتها
واعتمدت منذ أكثر من عقد، بل نجد بذورها الأولى مع انتخاب دونالد ريغان.
بغض النظر عن الفهم المجتزأ لأسطورة شهرزاد، فإن ما يلفتنا هو ذلك الدور
المتقدم الذي صار للحكاية في الترويج لفكرة، لاستراتيجية، لمفهوم سياسي ما.
يوم انطلقت الثورة في تونس اختار لها اهل البلاد اسم ثورة الياسمين،
والمصريون اختاروا ثورة اللوتس، لكن هذان الإسمان اختفيا من سجلات التداول،
لتحل مكانهما عبارة "الربيع العربي" التي قد تبدو جامعة، ولكن المشكلة
تكمن في أنها ليست من اختيار الثوار، أُنزلت عليهم، وراجت فجأة. تختصر
عملية التسمية الإشكالية، الثوار لا يحكون الحكاية، ثمة من يحكيها عنهم،
فيرويها بما يناسبه هو، ليس لأن الثوار لا يملكون تقنيات الحكي، بل لأنهم
لا يجدون مكاناً حقيقياً في وسائل الإعلام التقليدية التي ما زالت مسيطرة
على المشهد العام، ونعني بها بشكل خاص التلفزيونات. حكايات عن ثورة مجتزأة،
مفبركة من عناوين إخبارية لا تتوغل في المشهد الثوري، بايجابياته
وسلبياته، حكايات عما يريده اباطرة الإعلام، لا عما يفعله الثوار، هل من
يحكي قصص من ماتوا، هل من يتابع الشبان الذين لا يغادرون ميدان التحرير، هل
من ينقل لنا مشهد واقعي عن أسئلة الليبيين وإشكالات ثورتهم؟ قد يكون كتاب
برنار هنري ليفي الثورة الليبية من أبرز الأمثلة على ما نورده، في "الحرب
دون أن نحبها" يصير من يروي الحكاية -ليفي في هذه الحالة- بطل الكتاب\
القصة، ومعه شريكه في "إنقاذ" الليبيين عنينا الرئيس الفرنسي نيكولا
ساركوزي. أما الثورة والثوار فأكسسوارات، رجالات في أدوار ثانوية، كومبارس
في معظم الأحيان. من يعيش في ساحات الثوار، يشعر برغبة قوية لأن يقول: إحكي
يا شهرزاد، كي لا تُسرق الثورات من صانعيها الحقيقيين، لأن الحكاية وحدها
تؤرخ لأي حدث، فالصورة فقدت مصداقيتها. يذكرنا كريستيان سالمون في كتابه عن
"صناعة الحكايات وتأطير العقول"، بأن توزع الصور وتضاربها جعلها تفقد
صدقيتها، لذلك صار من الضروري أن تُصاحب بحكاية (لا بالمعلومات). هذه روح
العصر، ومن هنا يمكننا أن نفهم ما يأتي به تيار كبير في لبنان والعالم (من
مؤيدي ومعارضي الثورات)، حيث يُقال بأن الأميركيين (أو أي جهة أجنبية أخرى)
صنعوها أو ساهموا في تحريكها. القضية لها وجه آخر، فالإعلام العربي لم
يفتح شاشاته وصفحاته للثوار، لم يبحث عن هذه الحركة التاريخية، بل انجر
وراء الحكاية التي تُجهز في إمبراطوريات إعلامية عالمية، استكان لما تأتي
به، فصارت الحكاية المعروفة هي حكاية مغلوطة لا تشبه اللوتس والياسمين
وغيرهما.
* صحافية وكاتبة